جون لوك (1632 - 1704)
( سيرته ، مطارحتان في الحكم المدني )
جون لوك (John Lock) هو فيلسوف تجريبي ومفكر سياسي إنجليزي. ولد في عام 1632 في رنجتون (Wringiton) في إقليم (Somerset) وتعلم في مدرسة وستمنستر، ثم في كلية كنيسة المسيح في اكسفورد، حيث انتخب طالبا مدى الحياة، لكن هذا اللقب سحب منه في عام 1684 بأمر من الملك. وبسبب كراهيته لعدم التسامح البيورتياني عند اللاهوتيين في هذه الكلية، لم ينخرط في سلك رجال الدين. وبدلاً من ذلك اخذ في دراسة الطب ومارس التجريب العلمي، حتى عرف باسم (دكتور لوك).
وفي عام 1667 اصبح طبيباً خاصاً لأسرة انتوني آشلي كوبر (1621-1683) الذي صار فيما بعد الإيرل الأول لشافتسبري، ووزيراً للعدل، ولعب دوراً خطيراً في الأحداث السياسية العظيمة التي وقعت في إنجلترا ما بين ســنة 1660 وسنة 1680. لعبت علاقة لوك باللورد آشلي دوراً كبيراً في نظرياته السياسية الليبرالية. وكان اللورد آشلي يتمتع بنفوذ كبير في إنجلترا إذ كان يمثل المصالح السياسية لرؤوس الأموال التجارية في لندن، وتحت تأثير اللورد آشلي كتب لوك في عام 1667 مقالاً خاصاً بالتسامح (On Toleration) راجع فيه أفكاره القديمة الخاصة بإمكانية تنظيم الدولة لكل شؤون الكنيسة.
اعتقد الكثيرون لمدة طويلة ان لوك كتب اشهر مقالتين سياسيتين نشرتا في عام 1690 بعنوان "مقالتان عن الحكومة" (Two Treatises on Government) تأييداً لثورة 1688 الكبرى. وهناك وجهة نظر تقول إن المقالتين موجهتان ضد فيلمر (Filmer) وليس ضد هوبس كما كان يفكر البعض. وهاجر لوك إلى هولندا عام 1683 بسبب ملاحقة البوليس له، وذلك لاتصالاته الوثيقة باللورد آشلي، الذي كان معارضاً للقصر وبقي هناك حتى عام 1689، وفي هولندا كتب لوك عدة مقالات منها:
مقال خاص بالفهم البشري (Essay Concerning Human Understanding) وبعض الأفكار عن التربية وأخرى عن التسامح. وعندما جاءت الثورة الكبرى، استطاع لوك العودة إلى إنجلترا. وقد رفضت الجامعات القديمة فلسفته الحسية وآراءَه الليبرالية. ومع ذلك فقد عاصر شهرته الكبرى التي انتشرت في أنحاء العالم. وتوفي عام 1704.
لوك: مختارات من "مطارحتان في الحكم المدني"
من "المطارحة الثانية"
الفصل الأول
لا أظنني أحيد عن التسلسل الصحيح إذا تناولت بالبحث موضوع السلطة السياسية، عسى أن يتم تمييز سلطة الحاكم المدني على الرعية عن سلطة الأب على أبنائه، السيد على خدامه، الزوج على زوجته، والمالك على عبده. جميع هذه السلطات المميزة قد تلتقي في نفس الشخص أحيانا، هذا إذا نظرنا إليه من وجهة نظر هذه العلاقات المتباينة. قد يساعدنا أن نميز هذه السلطات عن بعضها البعض، وأن نبين الفرق بين حاكم الدولة، رب العائلة، وربان السفينة.
السلطة السياسية، في نظري، هي حق سن القوانين بشأن عقوبة الموت، وبالتالي، جميع العقوبات الأدنى منها، وذلك من أجل تنظيم وحماية الملكية، وهي أيضا حق استعمال قوة المجتمع في تنفيذ مثل هذه القوانين، وفي الدفاع عن الدولة من العدوان الخارجي. كل هذا سبيل الخير العام فقط.
الفصل الثاني
عن الحالة الطبيعية
لكي نفهم السلطة السياسية على الوجه الصحيح، ولكي نستمدها من مصادرها، لا بد من النظر إلى الحالة التي يعيشها الناس طبيعيا، وهي حالة من الحرية التامة في اختيار أعمالهم والتصرف بأشخاصهم وممتلكاتهم كما يرتأون، ضمن حدود قانون الطبيعة، وذلك دون استئذان، ودون الاعتماد على مشيئة أي شخص آخر.
وهي أيضا حالة تسودها المساواة، حيث تكون جميع السلطة والولاية متبادلة، ليس لأحد أكثر من الآخر. انه لغاية في الوضوح والجلاء ان نفس الجنس والمرتبة، والذين ولدوا دون تمييز للتمتع بخيرات الطبيعة ولاستعمال نفس الملكات، يجب أن يكونوا متساوين ودونما تبعية أو إخضاع. هذا الا إذا ولى رب العالمين (وبإعلان واضح عن مشيئته) أحدهم على الآخر، ومنحه (وبتعيين واضح وجلي) حقا غير مشكوك فيه للسيطرة والسيادة...
ومع أنها حالة من الحرية الا انها ليست حالة من الإباحية. فمع أن للإنسان في هذه الحالة حرية للتصرف بشخصه وممتلكاته، غير أنه ليس حرا في تدمير نفسه أو تدمير أي مخلوق بحوزته، الا إذا تطلب ذلك هدفا (أو استعمالا) أسمى من مجرد البقاء. ويحكم الحالة الطبيعية قانون طبيعي يلزم كل فرد. والعقل، وهو ذلك القانون، يعلّم البشر إذا أصغوا إليه، انه لكونهم جميعا متساوين ومستقلين، فلا يجوز لأحدهم أن يؤذي الآخر في حياته، صحته، حريته أو ممتلكاته: بما ان الناس جميعا من صنع خالق قدير وحكيم، وبما أنهم جميعا خدام سيد حاكم واحد، أرسلوا إلى الدنيا بأمر منه، فهم لذلك ملكه الخاص، وما صنعه من المفروض أن يدوم وفقا لمشيئته، وليس وفقا لمشيئة أي إنسان آخر. وبما أنهم مزودون بنفس المكان والقدرات ويتقاسمون كل شيء في مجتمع طبيعي واحد، فلا يمكن افتراض أية تبعية بينهم تجيز لهم تدمير بعضهم البعض، كما خلقت مخلوقات المرتبات الدنيا لاستعمالهم. وكما أن على الواحد أن يحافظ على نفسه، والا يتنازل طواعية عن موقعه، كذلك عليه قدر المستطاع (وعندما لا يتعارض ذلك مع بقائه) ان يحافظ على بقية الناس. كما وعليه ان يمتنع، الا إذا كان ذلك من أجل معاقبة الجاني، عن القضاء على أو تشويه حياة الآخرين، حريتهم، صحتهم، أعضاءهم أو أملاكهم الخاصة.
وعلى الناس جميعا أن يمتنعوا عن الاعتداء على حقوق الآخرين، وعن إلحاق الضرر بهم، وأن يعملوا على مراعاة قانون الطبيعة الذي يأمر بالسلام وبالحفاظ على الجنس البشري. وتنفيذ قانون الطبيعة، في هذا الوضع، هو من مهمة كل فرد، حيث لكل واحد الحق في معاقبة من يخرق هذا القانون والى الحد الذي يمنع من انتهاكه. فقانون الطبيعة، كباقي القوانين التي تعنى بشؤون الناس في هذه الدنيا، يكون غير مُجدً إذا لم تتوفر لأحد في الحالة الطبيعية سلطة تنفيذ القانون، لحماية البريء وردع المذنب. وإذا جاز للواحد في الحالة الطبيعية معاقبة الآخر على أي ذنب مقتَرف، فلكل واحد الحق في عمل ذلك. ففي هذا الوضع من المساواة التامة، حيث لا سلطة أو أفضلية لأحد على الآخر، ما يجوز للواحد فعله لتطبيق هذا القانون، يحق لكل واحد أن يقوم بذلك.
وهكذا، فإنه في حالة الطبيعة يحصل الواحد على سلطة على الآخرين، ولكنها ليست سلطة اعتباطية أو مطلقة، في التصرف بالمجرم، إذا تم القبض عليه، حسب العواطف الشديدة أو الرغبات الجامحة، وإنما فقط من أجل العقاب والى الحد الذي يمليه الضمير والعقل المتزن والى الحد الذي يتناسب مع الجرم المرتكب ويفي بغرضي الإصلاح والردع. هذان هما المبرران لإلحاق الضرر قانونيا، وهو ما نسميه عقابا. وبانتهاكه قانون الطبيعة، يكون الجاني قد أعلن انه يعيش حسب قانون غير قانون العقل والإنصاف، وهو المعيار الذي وضعه الله لأعمال الناس من أجل أمنهم المتبادل، وبهذا يصبح خطرا على الناس لأنه يسخف بالعلاقة التي تحميهم من الأذى والعنف. ولكون ذلك عدوانا على جميع أفراد الجنس البشري، سلامتهم، وأمنهم الذي وفره قانون الطبيعة، فلكل إنسان، بناء على ذلك، وبناء على حقه في الحفاظ على البشرية بعامة، أن يمنع، وان كان ضروريا ان يقضي على الأشياء الضارة بهم، وأن يلحق الأذى بمن يخالف القانون والى الحد الذي يجعله يتوب عن فعلته، وبهذا يردعه ويردع الآخرين من خلاله. وفي هذه الحالة، وعلى هذا الأساس، فإن "لكل إنسان الحق في عقاب الجاني وفي تنفيذ قانون الطبيعة".
الفصل الثالث
عن حالة الحرب
حالة الحرب هي حالة من العداء والدمار: فإذا أعلن أحد، قولا أو فعلا، عن تصميم راسخ ومتأن، وليس بانفعال أو تسرع، في القضاء على حياة شخص آخر، فإن هذا يجعله في حالة حرب مع من أعلن أنه ينوي القضاء عليه. وبذلك يعّرض (الأول) نفسه لسلطة الآخر، أو سلطة من ينضم إليه للدفاع عنه ومساعدته في صراعه. من المعقول ومن العدل، ان يكون لي الحق في تدمير من يهددني بالدمار. فحسب القانون الأساسي للطبيعة، يتوجب علي ان أحافظ، ما استطعت، على بقاء الإنسان. ولكن عندما يتعذر الحفاظ على بقاء الجميع، يجب أن تفضل سلامة الأبرياء ويجوز للواحد تدمير من يقوم بالحرب أو يناصب العداء، تماما كما يجوز له أن يقتل الذئب أو الأسد. مثل هؤلاء لا يربطهم قانون العقل، ولا يحكمهم مبدأ سوى مبدأ القوة والعنف، وتجوز معاملتهم كما تعامل الحيوانات المفترسة، تلك المخلوقات الخطرة والقاتلة التي تدمر من يكون في قبضتها.
ومن هنا فإن من يحاول أن يضع شخصا آخر تحت سلطته المطلقة يجعل نفسه بذلك في حالة حرب معه، ويجوز فهم عمله كإعلان عن قصده في الاعتداء على حياة الآخر. وهنالك ما يبرز الاعتقاد بأن من يحاول التسلط علي دون موافقتي فإنه يتصرف تجاهي كما يشاء، وقد يدمرني عندما يروق له ذلك. فلا يرغب أحد أن أكون تحت سلطته المطلقة الا إذا كان يود أن يرغمني بالعنف على قبول ما يتناقض مع حقي في الحرية، أي تحويلي إلى عبد. ان التحرر من هذه القوة هو الضمان الوحيد لبقائي، والعقل يبين لي أن عدو بقائي هو كل من يحاول ان يسلبني حربي، والتي هي سياج هذا البقاء. ان من يحاول أن يستعبدني يجعل نفسه نتيجة لذلك في حالة حرب معي. ففي الحالة الطبيعية، من يريد أن يسلب حرية إنسان آخر في هذه الحالة، فمن المفروض وبالضرورة ان لديه النية في سلب كل شيء آخر. فالحرية هي أساس كل شيء آخر. تماما كما في المجتمع المدني، فإن من يحاول سلب حرية أولئك الذين ينتمون إلى هذا المجتمع أو الدولة، فمن المفروض وبالضرورة ان لديه النية في سلب كل شيء آخر يخصهم، ولذلك يجب اعتباره في حالة حرب معهم.
وهذا ما يجعل قتل اللص عملا قانونيا، ذلك اللص الذي لم يؤذ الرجل الذي سرق منه، ولم يعتد على حياته، وإنما فقط استعمل العنف للتسلط عليه من أجل أخذ نقوده أو ما يريده منه. فإذا استعمل العنف بدون حق، فلا أساس للاعتقاد بأن من يحاول أن يسلبني حريتي لا يسلبني، عندما يتسلط علي، كل شيء آخر. ولذا، فقانوني ان اعتبره في حالة حرب معي، أي ان اقتله إذا استطعت. فمن يبدأ حالة الحرب ويكون طرفا معتديا بها، يعرض نفسه وبحق لذاك الخطر.
وهنا يكمن الفرق الواضح بين حالة الطبيعة وحالة الحرب، وهما، وان خلط الناس بينهما، حالتان متباينتان تباين حالة السلم، حسن النية، التعايش والدعم المتبادل، عن حالة العداء، الحقد، العنف والدمار المتبادل. أناس يعيشون معا وفق العقل دون أن يكون لهم رئيس مشترك في الدنيا له سلطة القضاء بينهم، هذه هي حالة الطبيعة حقا. لكن العنف، أو النية المعلنة في استعمال العنف، ضد شخص آخر، دون وجود رئيس مشترك في الدنيا يلجأون إليه من أجل العون، هذه هي حالة الحرب. وعدم إمكانية اللجوء إلى القضاء هو الذي يعطي الفرد حق الحرب ضد المعتدي، حتى وان كان (أي المعتدي) مثله مواطنا أو من أفراد المجتمع.
الفصل الرابع
عن العبودية
الحرية الطبيعية هي أن يكون الفرد حرا من أية سلطة عليا على وجه الأرض، والا يكون خاضعا لإرادة أحد أو لسلطته الشرعية، وإنما يكون محكوما بقانون الطبيعة فقط. اما الحرية في المجتمع فهي الا يكون الفرد خاضعا لأية سلطة تشريعية سوى تلك التي نشأت بالاتفاق، والا يكون خاضعا لإرادة أحد أو لتقييد أي قانون سوى الصادر عن تلك السلطة التشريعية، وحسب الثقة التي منحتها. الحرية إذن ليست ما يقول روبرت فيلمر" انها وضع يكون الإنسان فيه حر التصرف كما يشاء، والعيش كما يرغب، غير خاضع لأي قانون". حرية الناس في ظل الحكم هي أن يعيشوا وفق قانون ثابت ومشترك لجميع أفراد المجتمع، قانون من صنع السلطة التشريعية التي تأسست فيه. وهي الحرية في أن أفعل ما أشاء في شتى الأمور التي لا ينص عليها القانون، والا أكون خاضعا للإرادة الاعتباطية، المتقلبة، غير المعروفة وغير الثابتة، لأي إنسان آخر. تماما مثل حرية الطبيعة التي لا تخضع لأي قيد سوى قانون الطبيعية.
هذه الحرية من السلطة المطلقة والاعتباطية ضرورية ووثيقة الصلة ببقاء الفرد، والى درجة أنه لا يستطيع التخلي عنها دون أن يسقط حقه في البقاء والحياة معا.
( سيرته ، مطارحتان في الحكم المدني )
جون لوك (John Lock) هو فيلسوف تجريبي ومفكر سياسي إنجليزي. ولد في عام 1632 في رنجتون (Wringiton) في إقليم (Somerset) وتعلم في مدرسة وستمنستر، ثم في كلية كنيسة المسيح في اكسفورد، حيث انتخب طالبا مدى الحياة، لكن هذا اللقب سحب منه في عام 1684 بأمر من الملك. وبسبب كراهيته لعدم التسامح البيورتياني عند اللاهوتيين في هذه الكلية، لم ينخرط في سلك رجال الدين. وبدلاً من ذلك اخذ في دراسة الطب ومارس التجريب العلمي، حتى عرف باسم (دكتور لوك).
وفي عام 1667 اصبح طبيباً خاصاً لأسرة انتوني آشلي كوبر (1621-1683) الذي صار فيما بعد الإيرل الأول لشافتسبري، ووزيراً للعدل، ولعب دوراً خطيراً في الأحداث السياسية العظيمة التي وقعت في إنجلترا ما بين ســنة 1660 وسنة 1680. لعبت علاقة لوك باللورد آشلي دوراً كبيراً في نظرياته السياسية الليبرالية. وكان اللورد آشلي يتمتع بنفوذ كبير في إنجلترا إذ كان يمثل المصالح السياسية لرؤوس الأموال التجارية في لندن، وتحت تأثير اللورد آشلي كتب لوك في عام 1667 مقالاً خاصاً بالتسامح (On Toleration) راجع فيه أفكاره القديمة الخاصة بإمكانية تنظيم الدولة لكل شؤون الكنيسة.
اعتقد الكثيرون لمدة طويلة ان لوك كتب اشهر مقالتين سياسيتين نشرتا في عام 1690 بعنوان "مقالتان عن الحكومة" (Two Treatises on Government) تأييداً لثورة 1688 الكبرى. وهناك وجهة نظر تقول إن المقالتين موجهتان ضد فيلمر (Filmer) وليس ضد هوبس كما كان يفكر البعض. وهاجر لوك إلى هولندا عام 1683 بسبب ملاحقة البوليس له، وذلك لاتصالاته الوثيقة باللورد آشلي، الذي كان معارضاً للقصر وبقي هناك حتى عام 1689، وفي هولندا كتب لوك عدة مقالات منها:
مقال خاص بالفهم البشري (Essay Concerning Human Understanding) وبعض الأفكار عن التربية وأخرى عن التسامح. وعندما جاءت الثورة الكبرى، استطاع لوك العودة إلى إنجلترا. وقد رفضت الجامعات القديمة فلسفته الحسية وآراءَه الليبرالية. ومع ذلك فقد عاصر شهرته الكبرى التي انتشرت في أنحاء العالم. وتوفي عام 1704.
لوك: مختارات من "مطارحتان في الحكم المدني"
من "المطارحة الثانية"
الفصل الأول
لا أظنني أحيد عن التسلسل الصحيح إذا تناولت بالبحث موضوع السلطة السياسية، عسى أن يتم تمييز سلطة الحاكم المدني على الرعية عن سلطة الأب على أبنائه، السيد على خدامه، الزوج على زوجته، والمالك على عبده. جميع هذه السلطات المميزة قد تلتقي في نفس الشخص أحيانا، هذا إذا نظرنا إليه من وجهة نظر هذه العلاقات المتباينة. قد يساعدنا أن نميز هذه السلطات عن بعضها البعض، وأن نبين الفرق بين حاكم الدولة، رب العائلة، وربان السفينة.
السلطة السياسية، في نظري، هي حق سن القوانين بشأن عقوبة الموت، وبالتالي، جميع العقوبات الأدنى منها، وذلك من أجل تنظيم وحماية الملكية، وهي أيضا حق استعمال قوة المجتمع في تنفيذ مثل هذه القوانين، وفي الدفاع عن الدولة من العدوان الخارجي. كل هذا سبيل الخير العام فقط.
الفصل الثاني
عن الحالة الطبيعية
لكي نفهم السلطة السياسية على الوجه الصحيح، ولكي نستمدها من مصادرها، لا بد من النظر إلى الحالة التي يعيشها الناس طبيعيا، وهي حالة من الحرية التامة في اختيار أعمالهم والتصرف بأشخاصهم وممتلكاتهم كما يرتأون، ضمن حدود قانون الطبيعة، وذلك دون استئذان، ودون الاعتماد على مشيئة أي شخص آخر.
وهي أيضا حالة تسودها المساواة، حيث تكون جميع السلطة والولاية متبادلة، ليس لأحد أكثر من الآخر. انه لغاية في الوضوح والجلاء ان نفس الجنس والمرتبة، والذين ولدوا دون تمييز للتمتع بخيرات الطبيعة ولاستعمال نفس الملكات، يجب أن يكونوا متساوين ودونما تبعية أو إخضاع. هذا الا إذا ولى رب العالمين (وبإعلان واضح عن مشيئته) أحدهم على الآخر، ومنحه (وبتعيين واضح وجلي) حقا غير مشكوك فيه للسيطرة والسيادة...
ومع أنها حالة من الحرية الا انها ليست حالة من الإباحية. فمع أن للإنسان في هذه الحالة حرية للتصرف بشخصه وممتلكاته، غير أنه ليس حرا في تدمير نفسه أو تدمير أي مخلوق بحوزته، الا إذا تطلب ذلك هدفا (أو استعمالا) أسمى من مجرد البقاء. ويحكم الحالة الطبيعية قانون طبيعي يلزم كل فرد. والعقل، وهو ذلك القانون، يعلّم البشر إذا أصغوا إليه، انه لكونهم جميعا متساوين ومستقلين، فلا يجوز لأحدهم أن يؤذي الآخر في حياته، صحته، حريته أو ممتلكاته: بما ان الناس جميعا من صنع خالق قدير وحكيم، وبما أنهم جميعا خدام سيد حاكم واحد، أرسلوا إلى الدنيا بأمر منه، فهم لذلك ملكه الخاص، وما صنعه من المفروض أن يدوم وفقا لمشيئته، وليس وفقا لمشيئة أي إنسان آخر. وبما أنهم مزودون بنفس المكان والقدرات ويتقاسمون كل شيء في مجتمع طبيعي واحد، فلا يمكن افتراض أية تبعية بينهم تجيز لهم تدمير بعضهم البعض، كما خلقت مخلوقات المرتبات الدنيا لاستعمالهم. وكما أن على الواحد أن يحافظ على نفسه، والا يتنازل طواعية عن موقعه، كذلك عليه قدر المستطاع (وعندما لا يتعارض ذلك مع بقائه) ان يحافظ على بقية الناس. كما وعليه ان يمتنع، الا إذا كان ذلك من أجل معاقبة الجاني، عن القضاء على أو تشويه حياة الآخرين، حريتهم، صحتهم، أعضاءهم أو أملاكهم الخاصة.
وعلى الناس جميعا أن يمتنعوا عن الاعتداء على حقوق الآخرين، وعن إلحاق الضرر بهم، وأن يعملوا على مراعاة قانون الطبيعة الذي يأمر بالسلام وبالحفاظ على الجنس البشري. وتنفيذ قانون الطبيعة، في هذا الوضع، هو من مهمة كل فرد، حيث لكل واحد الحق في معاقبة من يخرق هذا القانون والى الحد الذي يمنع من انتهاكه. فقانون الطبيعة، كباقي القوانين التي تعنى بشؤون الناس في هذه الدنيا، يكون غير مُجدً إذا لم تتوفر لأحد في الحالة الطبيعية سلطة تنفيذ القانون، لحماية البريء وردع المذنب. وإذا جاز للواحد في الحالة الطبيعية معاقبة الآخر على أي ذنب مقتَرف، فلكل واحد الحق في عمل ذلك. ففي هذا الوضع من المساواة التامة، حيث لا سلطة أو أفضلية لأحد على الآخر، ما يجوز للواحد فعله لتطبيق هذا القانون، يحق لكل واحد أن يقوم بذلك.
وهكذا، فإنه في حالة الطبيعة يحصل الواحد على سلطة على الآخرين، ولكنها ليست سلطة اعتباطية أو مطلقة، في التصرف بالمجرم، إذا تم القبض عليه، حسب العواطف الشديدة أو الرغبات الجامحة، وإنما فقط من أجل العقاب والى الحد الذي يمليه الضمير والعقل المتزن والى الحد الذي يتناسب مع الجرم المرتكب ويفي بغرضي الإصلاح والردع. هذان هما المبرران لإلحاق الضرر قانونيا، وهو ما نسميه عقابا. وبانتهاكه قانون الطبيعة، يكون الجاني قد أعلن انه يعيش حسب قانون غير قانون العقل والإنصاف، وهو المعيار الذي وضعه الله لأعمال الناس من أجل أمنهم المتبادل، وبهذا يصبح خطرا على الناس لأنه يسخف بالعلاقة التي تحميهم من الأذى والعنف. ولكون ذلك عدوانا على جميع أفراد الجنس البشري، سلامتهم، وأمنهم الذي وفره قانون الطبيعة، فلكل إنسان، بناء على ذلك، وبناء على حقه في الحفاظ على البشرية بعامة، أن يمنع، وان كان ضروريا ان يقضي على الأشياء الضارة بهم، وأن يلحق الأذى بمن يخالف القانون والى الحد الذي يجعله يتوب عن فعلته، وبهذا يردعه ويردع الآخرين من خلاله. وفي هذه الحالة، وعلى هذا الأساس، فإن "لكل إنسان الحق في عقاب الجاني وفي تنفيذ قانون الطبيعة".
الفصل الثالث
عن حالة الحرب
حالة الحرب هي حالة من العداء والدمار: فإذا أعلن أحد، قولا أو فعلا، عن تصميم راسخ ومتأن، وليس بانفعال أو تسرع، في القضاء على حياة شخص آخر، فإن هذا يجعله في حالة حرب مع من أعلن أنه ينوي القضاء عليه. وبذلك يعّرض (الأول) نفسه لسلطة الآخر، أو سلطة من ينضم إليه للدفاع عنه ومساعدته في صراعه. من المعقول ومن العدل، ان يكون لي الحق في تدمير من يهددني بالدمار. فحسب القانون الأساسي للطبيعة، يتوجب علي ان أحافظ، ما استطعت، على بقاء الإنسان. ولكن عندما يتعذر الحفاظ على بقاء الجميع، يجب أن تفضل سلامة الأبرياء ويجوز للواحد تدمير من يقوم بالحرب أو يناصب العداء، تماما كما يجوز له أن يقتل الذئب أو الأسد. مثل هؤلاء لا يربطهم قانون العقل، ولا يحكمهم مبدأ سوى مبدأ القوة والعنف، وتجوز معاملتهم كما تعامل الحيوانات المفترسة، تلك المخلوقات الخطرة والقاتلة التي تدمر من يكون في قبضتها.
ومن هنا فإن من يحاول أن يضع شخصا آخر تحت سلطته المطلقة يجعل نفسه بذلك في حالة حرب معه، ويجوز فهم عمله كإعلان عن قصده في الاعتداء على حياة الآخر. وهنالك ما يبرز الاعتقاد بأن من يحاول التسلط علي دون موافقتي فإنه يتصرف تجاهي كما يشاء، وقد يدمرني عندما يروق له ذلك. فلا يرغب أحد أن أكون تحت سلطته المطلقة الا إذا كان يود أن يرغمني بالعنف على قبول ما يتناقض مع حقي في الحرية، أي تحويلي إلى عبد. ان التحرر من هذه القوة هو الضمان الوحيد لبقائي، والعقل يبين لي أن عدو بقائي هو كل من يحاول ان يسلبني حربي، والتي هي سياج هذا البقاء. ان من يحاول أن يستعبدني يجعل نفسه نتيجة لذلك في حالة حرب معي. ففي الحالة الطبيعية، من يريد أن يسلب حرية إنسان آخر في هذه الحالة، فمن المفروض وبالضرورة ان لديه النية في سلب كل شيء آخر. فالحرية هي أساس كل شيء آخر. تماما كما في المجتمع المدني، فإن من يحاول سلب حرية أولئك الذين ينتمون إلى هذا المجتمع أو الدولة، فمن المفروض وبالضرورة ان لديه النية في سلب كل شيء آخر يخصهم، ولذلك يجب اعتباره في حالة حرب معهم.
وهذا ما يجعل قتل اللص عملا قانونيا، ذلك اللص الذي لم يؤذ الرجل الذي سرق منه، ولم يعتد على حياته، وإنما فقط استعمل العنف للتسلط عليه من أجل أخذ نقوده أو ما يريده منه. فإذا استعمل العنف بدون حق، فلا أساس للاعتقاد بأن من يحاول أن يسلبني حريتي لا يسلبني، عندما يتسلط علي، كل شيء آخر. ولذا، فقانوني ان اعتبره في حالة حرب معي، أي ان اقتله إذا استطعت. فمن يبدأ حالة الحرب ويكون طرفا معتديا بها، يعرض نفسه وبحق لذاك الخطر.
وهنا يكمن الفرق الواضح بين حالة الطبيعة وحالة الحرب، وهما، وان خلط الناس بينهما، حالتان متباينتان تباين حالة السلم، حسن النية، التعايش والدعم المتبادل، عن حالة العداء، الحقد، العنف والدمار المتبادل. أناس يعيشون معا وفق العقل دون أن يكون لهم رئيس مشترك في الدنيا له سلطة القضاء بينهم، هذه هي حالة الطبيعة حقا. لكن العنف، أو النية المعلنة في استعمال العنف، ضد شخص آخر، دون وجود رئيس مشترك في الدنيا يلجأون إليه من أجل العون، هذه هي حالة الحرب. وعدم إمكانية اللجوء إلى القضاء هو الذي يعطي الفرد حق الحرب ضد المعتدي، حتى وان كان (أي المعتدي) مثله مواطنا أو من أفراد المجتمع.
الفصل الرابع
عن العبودية
الحرية الطبيعية هي أن يكون الفرد حرا من أية سلطة عليا على وجه الأرض، والا يكون خاضعا لإرادة أحد أو لسلطته الشرعية، وإنما يكون محكوما بقانون الطبيعة فقط. اما الحرية في المجتمع فهي الا يكون الفرد خاضعا لأية سلطة تشريعية سوى تلك التي نشأت بالاتفاق، والا يكون خاضعا لإرادة أحد أو لتقييد أي قانون سوى الصادر عن تلك السلطة التشريعية، وحسب الثقة التي منحتها. الحرية إذن ليست ما يقول روبرت فيلمر" انها وضع يكون الإنسان فيه حر التصرف كما يشاء، والعيش كما يرغب، غير خاضع لأي قانون". حرية الناس في ظل الحكم هي أن يعيشوا وفق قانون ثابت ومشترك لجميع أفراد المجتمع، قانون من صنع السلطة التشريعية التي تأسست فيه. وهي الحرية في أن أفعل ما أشاء في شتى الأمور التي لا ينص عليها القانون، والا أكون خاضعا للإرادة الاعتباطية، المتقلبة، غير المعروفة وغير الثابتة، لأي إنسان آخر. تماما مثل حرية الطبيعة التي لا تخضع لأي قيد سوى قانون الطبيعية.
هذه الحرية من السلطة المطلقة والاعتباطية ضرورية ووثيقة الصلة ببقاء الفرد، والى درجة أنه لا يستطيع التخلي عنها دون أن يسقط حقه في البقاء والحياة معا.
6/8/2023, 9:34 pm من طرف روان علي شريف
» أنا بهذه اللحظة
10/28/2021, 8:01 am من طرف جاك
» على الرصيف
6/13/2020, 5:40 pm من طرف روان علي شريف
» بوابة الجحيم
6/13/2020, 4:58 pm من طرف روان علي شريف
» الكاتب علي شريف روان في حوار لـ"الديوان"
6/28/2019, 5:05 pm من طرف روان علي شريف
» فردوس مليندا المفقود.
3/12/2019, 1:20 am من طرف روان علي شريف
» بدري فركوح
3/4/2019, 11:56 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» ليلى العفيفة
3/4/2019, 11:52 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» مجموعة مؤلفات محمد حسنين هيكل
1/27/2019, 3:42 pm من طرف نبيل اوزاعي
» ألفية العياط فى النحو
11/9/2018, 3:13 am من طرف محمود العياط
» ديوان إنشق القمر
8/14/2018, 2:05 am من طرف محمود العياط
» ديوان بومبا والاقزام
2/25/2018, 3:39 am من طرف محمود العياط
» بريد الموتى
1/23/2018, 2:35 am من طرف روان علي شريف
» ديوان دحش قرم ودانك
12/21/2017, 4:33 am من طرف محمود العياط
» ديوان حادى يابادى يا كرنب زبادى
10/14/2017, 6:21 am من طرف محمود العياط
» من عجائب الأرقام
5/24/2017, 9:36 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» ابن الرومي
5/24/2017, 9:20 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» قصيدة حبك وقلبى
8/13/2016, 11:05 pm من طرف محمود العياط
» الأعشى الأكبر
6/11/2016, 4:17 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» مساء الخير
5/2/2015, 8:40 am من طرف السراب
» مي زيادة
4/22/2015, 11:17 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» لبيد بن ربيعة
12/28/2014, 4:44 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» زهير بن أبي سلمى
12/20/2014, 4:32 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» جبران خليل جبران
12/5/2014, 2:16 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» إيايا أبو ماضي
11/5/2014, 2:09 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» حمل برنامح تعلم اللغة الانجليزيه على جهازك المحمول
9/11/2014, 10:04 pm من طرف poopy87
» أوبريت ملحمة تحتمس الرابع ولوحة الاحلام
7/28/2014, 9:41 am من طرف محمود العياط
» سيف الفراق
7/22/2014, 2:59 am من طرف محمود العياط
» ديوان اعشقك جدا
7/22/2014, 2:56 am من طرف محمود العياط
» ديوان الحديث مع النفس البشرية
7/22/2014, 2:54 am من طرف محمود العياط
» عمرو بن كلثوم
6/14/2014, 6:02 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» طرفة بن العبد
5/28/2014, 5:26 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» ديوان رصاصة فى قلب الجياد العجوزة
5/20/2014, 10:40 pm من طرف محمود العياط
» شهداء 6 أيار 1916
5/6/2014, 5:45 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» الياس قنصل
4/23/2014, 4:20 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» زكي قنصل
4/23/2014, 4:18 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» فضائية الجزيرة إحدى أسلحة قطر
4/3/2014, 6:05 pm من طرف طالب علي
» إضافة رائعة للفايرفوكس ( ميزة AutoPager ) تجعل كل المواضيع في صفحة واحدة
4/2/2014, 4:47 pm من طرف العـدوي
» محمود درويش مؤلفات ودواوين
3/20/2014, 9:56 pm من طرف wadfay
» حاتم الطائي
3/20/2014, 6:35 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» حكمة اليوم
3/2/2014, 6:03 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» امرؤ القيس
3/2/2014, 5:55 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» محتويات مكتبة الروايات
2/9/2014, 4:26 pm من طرف أريج الورد
» تقديم ديوان رصاصة فى قلب الجياد العجوزة محمود العياط
2/1/2014, 8:33 pm من طرف محمود العياط
» الحارث بن حلزة
1/21/2014, 7:36 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» مجموعة من الاغاني النادرة لكاظم الساهر تجدونها عند السراب فقط لا غير
1/19/2014, 10:02 am من طرف mas12ter
» رخصة زواج للمؤجل اداريا
1/8/2014, 9:17 am من طرف anas198510
» الف ليلة وليلة
1/8/2014, 2:01 am من طرف سعيد خليف
» عنترة العبسي
1/5/2014, 6:30 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» معجم المصطلحات النفسية انكليزي فرنسي عربي
11/24/2013, 1:33 pm من طرف محمد حمد