تدمر .. عروس الصحراء
ما زال التاريخ يطوي أسرار تدمر. فهذه العين التي يتفجر مأوها من أحد الكهوف كانت السبب في قيام مدينة عظيمة عاشت أحداث العصر ودفعت غاليا ثمنا لموقعها وسط القوافل التجارية والأطماع العسكرية.
ننطلق من دمشق إلى تدمر عبر أقصر الطرق، والذي يبلغ طوله 245 كيلو مترا. من النافذة نرقب قاسيون يتباعد حاضنا مدينته، حانيا عليهـا، تتبعه الحقول الخضراء الفرحة بحلول الربيع، المغتسلة بشمسه الدافئة. أتابع الطبيعة الخلابة، لكن تدمر وملكتهـا زنوبيا يقتحمان مخيلتي ويقطعان في هذه المراقبة. كلمة تدمر تعني الأعجوبة باللغة التدمرية القديمة، كما كان يطلق عليها أيضا تدمرتو وتعني الجميلة، والاسمان مطابقان لتلك البقعة القائمة وسط الصحراء، وليس أدل على ذلك من زعم عرب الجاهلية بأن الجن هم من قال ببناء تدمر، ولعلهم زعموا ذلك بسبب عظمة مبانيها ودقتها.
أما السبب الأساسي في وجود هذه الواحة في وسط الصحراء القاحلة فهو نبع ماء كبريتي يتدفق من جوف أحد الكهوف، وجده الإنسان القديم منذ العصور الحجرية الحديثة، أي الألف العاشرة قبل الميلاد، هذا ما تدلل عليه الكهوف المكتشفة حول المدينة، والتي عثر بداخلهـا على آثار عضوية أدوات صوانية صنعها الإنسان.
أما أقدم وثائق رسمية وجدت عن مدينة تدمر فتعود إلى القرن الواحد والعشرين قبل الميلاد في. منطقة كبادوكيا بالأناضول، ثم في مدينة ماري على الفرات الأوسط، تذكر هذه الوثائق وجود تدمر منذ زمن حامورابي، أي القرن الثامن عشر قبل الميلاد.
بعد ذلك يطوي التاريخ أسرار تدمر (ولكن ليس إلى الأبد، فالحفريات لم تظهر أكثر من 40% من آثارها) حتى القرن الرابع عشر قبل الميلاد حينما يذكرها الذين كتبوا التوراة، وأيضا ذكرت في رقيم كشف حديثا في مسكنة/ إيمار على ضفاف الفرات في نص يعود للقرن الرابع عشر أو الثالث عشر قبل الميلاد، وفيه أول طبعة ختم تدمري معروفة حتى الآن.
وفى القرن الحادي عشر ق.م يقول الملك الآشوري تغلات فلاصر الأول في حولياته: "حاربت سكان تدمر الآراميين وعدت بالغنائم إلى آشور".
وفي القرن الثاني قبل الميلاد كانت تدمر قد استقرت كإمارة عربية. وهناك شواهد مادية وأدبية تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد تدل على أن تدمر كانت تضم آنذاك مدينه على جانب من الأهمية.
ويذكر أنه في عام 14 ق. م عادت كليوباترا بحرا إلى مصر، وأرسل مارك أنطونيو فرسانه إلى تدمر وأمرهم بنهبها، لكن هذه الحملة لم تنجح فقد أخلى أهل تدمر مدينتهـم وعبروا الفرات بأرزاقهـم، وعبر النهر أخذوا يصلون فرسان أنطونيو بوابل سهامهم الشهيرة.
على أنه يعتقد أن الغزو الروماني لتدمر كان عام 64 / 65 ق. م، لكن الكتابات التي وجدت وتعود لمطلع القرن الأول الميلادي، تدل على أن تدمر قبل إلحاقها بروما كان لا نظام حكم يقوم على مجلس للشيوخ ومجلس للشعب، مع الإبقاء على دور العشيرة المهم. وهذا الحكم لم يتغير كثيرا بعد الوصاية الرومانية على تدمر. وكتابعة لروما أخذت تدمر تدفع الجزية، لكنها بقيت برغم ذلك منتعشة اقتصاديا، وتزايد نشاط طرقها التجارية.
وفي عام 106 م فقدت البتراء استقلالها على يد. الرومان. وكانت البتراء محطة رئيسية على طريق الحرير، ومنافسة لتدمر على الطرق التجارية، وبفقدها استقلالها أخذت تدمر مكانتها وأصبحت أهم محطة على هذا الطريق التجاري دون منافس ما بين مصر وجزيرة العرب وأوربا من جهة وفارس والهند والصين من جهـة ثانية. وكانت هذه الفترة الزمنية من أكثر ما عرفت تدمر انتعاشا اقتصاديا، فأكملت بناء معابدها ونظمت شوارع مدينتها.
ويبدو أن علاقة تدمر مع روما كانت حسنة، حيث حصلت تدمر من روما على رتبة "المعمرة الرومانية" عام 212 م في عهد الإمبراطور الروماني كركلا ابن الإمبراطور سبتيموس سيفيروس والأميرة الحمصية جوليا دومنا ابنة كاهن الشمس حمص، وبذلك أعفيت تدمر من دفع الضرائب.
في عام 228 م احتلت مصبات دجلة والفرات من قبل الفرس بعد استيلاء السلالة الساسانية على الحكم، وبذلك أخذت تدمر تفقد الطرق التجارية تدريجيا، وهنا تتوحد مصالح التدمريين مع مصالح الروم ويقفون جنبا إلى جنب للتصدي لمشاريع الساسانيين وإفشالها.
زنوبيا تصعد وتهبط
بعد معركة مع الفرس عام 260 م ينتصر فيها التدمريون بقيادة حاكمهم أذينة، يحوز بعدها أذينة من الإمبراطور الروماني الجديد غاليان لقب (مقوم الشرق كله) ويصبح (ملك الملوك). يحاول أذينة استرداد مفاتيح التجارة المسلوبة من قبل الساسانيين، لكنه يقتل قبل تنفيذ ذلك في ظروف غامضة عام 267 م أو 268 م. وتتولى زوجته زنوبيا أو زينب الحكم وصية على ابنها القاصر وهـب اللات. وزينب هو اسمهـا التدمري وهو أصم لنبات عطري، أما زنوبيا فهـو اسمها كما ينطق باليونانية.
كذلك تسمى الزباء لغزارة شعرها وجمالها.
لم تكن زينب ملكة عادية، كانت تجمع بين القوة والشجاعة من جهة، والحكمة والحنكة السياسية والثقافة العالية من جهـة أخرى، لقد كانت تتقن اللاتينية والفرعونية بجانب لغتهـا التدمرية، جمعت حولها الفلاسفة والعلماء، كانت طموحا قبضت بيديها على سر الخلود الذي شغل البشرية والذي حل طلاسمه قبلها جلجامش. فها هي خالدة بيننا برغم مئات السنين.
عند تولي زنوبيا الحكم أخذت ؟ تجمع العناصر العربية حولها في محاولة لتكوين دولة عربية قوية تحت زعامتها، وهذا ما كان لها فعلا، فقد استطاعت أن تتغلب على الرومان وأن تستولي على الإسكندرية أهم مدن الإمبراطورية الرومانية قاطبة، وكانت قبل ذلك قد مهدت لنفسها عند المصريين بإعلانها أنها مصرية من نسل كليوباترا. وقد عثر على نقود تدمرية سكت في الإسكندرية عامي 270، 271 م وعلى وجهها صورة القيصر الروماني أورليان بجانب صورة وهب اللات ابن زنوبيا. وهذا دليل على أن الحكم في مصر كان مشتركا بين روما وتدمر. ولم يدم هذا الاتفاق طويلا، حيث بدأ سادات روما بالضغط على الإمبراطور ليستعيد لروما مكانتها ويعيد لها الإسكندرية أهم مدنها، وما أن علمت الملكة الزباء بنوايا روما بالقضاء عليها، حتى قامت بإلغاء الاتفاق المعقود بينهما وإزالة صورة القيصر الروماني عن النقود. واستعدادا للمواجهـة يقال إنها وحدت خططهـا مع الملكة فكتوريا ملكة الغال، في مهاجمة الإمبراطورية الرومانية وتفكيكها. لقد وصلت جيوشها إلى الشمال الغربي حتى أنقرة، ووصلت إلى خلقدونية مقابل بيزنطة. وهكذا استطاعت زنوبيا أن تقيم إمبراطورية عربية انتزعتها من براثن الروم وهم في أوج قوتهم، لكنهـا لم تدم طويلا، ولم تتمكن من المحافظة عليهـا بسبب اتساعها وترامي أطرافها. ومن ثم استطاع الرومان العودة مرة أخرى، وكسب المعركة أمام زنوبيا، واقتيادها وهي في كامل زينتها مقيدة بسلاسل الذهب إلى روما لتقضي هناك بعيدة عن وطنها وأرضها وأمجادها، لكن تبقى خالدة بين شعبها برغم الزمن.
لقد اعترف الرومان بشجاعة زنوبيا وقوتها، وتحدثوا عنها بانبهـار. يقول مؤرخوهم إنها من أجمل نساء العالم قاطبة، فارسة، مقاتلة متمرسة، تشارك جنودها القتال وتسير معهـم على الأقدار مسافات طويلة، تتمتع بالكرم العربي والأخلاق العربية الأصيلة.
أستأذن من تدمر وزنوبيا قليلا، وألقي نظرة حولي، لا بد أننا قطعنا مسافة لا بأس بها، الصحراء الموشاة بعطايا الربيع تحيط بنا من كل جانب، الخيام البدوية وقطعان الماشية تتناثر على جنباتها، منظر رائع يزيد من روعته وسحره الهدوء والسكينة، ينطلق نظرنا حرا يجوب المساحات الشاسعة دون حدود أو سدود توقفه. ويحدثني أحد الزملاء بجانبي عن الصحراء والصيد بهذه المنطقة، صيد الأرانب وصيد الطيور، والتي من أنها صيد الصقر الذي يوجد في شهر سبتمبر، حيث يقضي صيادوه من البدو الأوقات الطويلة في ترقب ويقظة لاصطياده، وربما ينتهي الموسم ومواسم أيضا دون أن يحالفهم الحظ، لكن من يكون الحظ معه ويتمكن من الصقر فكأنه وقع على كنز يجني من ورائه المبالغ. الخيالية.
يقترب بنا الطريق أكثر فأكثر، وأخيرا نصل إلى تدمر التي تستقبلنا ببياراتها الخضراء على اليمين وعلى اليسار تستقبلنا أوابدها كشاهد على عظمتها وتاريخها العريق، شامخة بكبرياء لا يلبث أن ينتقل إليك، وتجيب عن سؤال يلح عليك، من أين أبدأ؟... من هنا،... أجل نبدأ بآثارها نستمع إلى حكاياتها وحكايات من مروا بها.
نزور أولا نبع أفقا، الذي هو السبب الأساسي في وجود هذه الراحة منذ الأزمنة السحيقة. وأفقا كلمة آرامية تعني "خروج الماء". وهذا النبع يتدفق من كهف في جنوب جبل المنظار يمتد أكثر من 350 مترا، نظم مدخله وبني معبدصغير لرب النبع، كما تذكر الكتابات المكتشفة فيه وتصف هذا الرب بـ "الطيب المبارك الرحمن الرحيم). وما يجذب الانتباه في هذه العبارة هو وصف الرب بالرحمن الرحيم، وهي من أسماء الله الحسنى.
والتي لا بد أن تكون ما بقي من عقيدة التوحيد.
مياه النبع مياه كبريتية، حرارتها ثابتة 33 درجة مئوية. عثر في مدخل الكهف عل عدة مذابح من الحجر المنحوت تبين أن المياه موزعة بين المواطنين بأمر من الرب "يرحبول" إله الشمس، وأن "القيم" وهو أحد رجال المدينة ينفذ الأمر الإلهي. لكن منذ مدة قليلة بدأ ينخفض، منسوب المياه في هذا النبع، والسبب في ذلك ربما يعود إلى كثرة الآبار التي جرى حفرهـا أخيرا قرب النبع.
وقبل أن نتجول بين الآثار الممتدة على مساحة واسعة، نتجه إلى المتحف الذي يقع في مدخل المدينة في ساحة الملكة زنوبيا.
نشاهد في المدخل الخارجي للمتحف تمثال أسد تدمر المكتشف في معبداللات عام 1977 م وهو من منحوتات القرن الأول قبل الميلاد، يرمز للربة العربية اللات كربة للحرب، والأسد رمز القوة التي تنفذ إرادتها. على يده اليسرى كتابة تدمرية تقول: "إن الربة اللات تبارك كل من لا يسفك الدم في المعبد" بما يعني حق اللجوء إلى المعبد. وهذا تجسيد، للتقاليد العربية التي بقيت سائدة.
جولة في المتحف
ندخل المتحف، أول ما يطالعنا نموذج لأحد الكهوف المكتشفة حول تدمر، يمثل إنسان العصر الحجري، نتجاوزه ونتجول داخل أروقة المتحف وقاعاته، نشعر وكأننا نركب آلة الزمن تنقلنا من زمن إلى آخر، نشاهد حضارات مختلفة، حضارات عربية تعاقبت على هذه المنطقة، وآثارا أخرى غربية وشرقية وجدت إثر غزو أو فتح أجنبي، أو إثر علاقات وصداقات مع شعوب أخرى، يظهر تأثر الفن التدمري بتلك الحضارات، لكن دون أن يفقد طابعه الشرقي التدمري المميز.
ومما نشاهده في المتحف لوحة تحوي موجزا عن اللغة والكتابة التدمرية وأبجديتها وأرقامها. واللغة التدمرية لهجة آرامية غربية انتشرت كلغة دولية من الهند حتى مصر ما بين القرنين السادس والسابع بعد الميلاد.
تمتلئ قاعات المتحف بتماثيل الآلهة والقادة، وألواح عليها كتابات تدمرية وعملات قديمة تعود لعدة حضارات، وأوان خزفية إسلامية وغير إسلامية، لكن ما يشد انتباهنا مومياوان محنطتان تعودان إلى بداية القرن الثالث الميلادي، وهما لشخصين من عامة الشعب، وهذا ما يدل على أن التحنيط كان متبعا وبشكل واسع في تدمر وما يجعل المهتمين بالآثار يتوقعون العثور على المزيد من المومياوات وخصوصا مومياوات تعود للطبقة الحاكمة وتكشف المزيد من تاريخ هذه المدينة.
وفي إحدى قاعات المتحف نشاهد مذبحا يمثل الربة العربية اللات، ومن منا لم يسمع بها؟ وقد أتى ذكرها في القرآن الكريم تقريعا لعبدة الأوثان في قوله تعالى: أفرءيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى الآيتان 19 و 20 من سورة النجم. واللات كما لدى الشعوب لا تلك الأزمنة رمز للحرب والسلام، وهي نفسها عشتار البابلية وإيزيس المصرية وعستارت الكنعانية وفينوس الرومانية، يتغير اسمها من مكان إلى آخر لكن يبقى الجوهـر واحدا، تعبر عنه إيزيس إذ تقول عن نفسهـا في أحد النصوص: "أنا أم الأشياء جميعا، سيدة العناصر وبادئة العوالم، حاكمة ما في السماوات من فوق وما في الجحيم من تحت، مركز القوة الربانية، أنا الحقيقة الكامنة وراء الآلهة والآلهات، عندي يجتمعون في شكل واحد وهيئة واحدة، بيدي أقدر أجرام السماء وريح البحر وصمت الجحيم، يعبدني العالم بطرق شتى، أما اسمي الحقيقي فهـو "إيزيس" به توجهـوا إلي بالدعاء".
ما زال التاريخ يطوي أسرار تدمر. فهذه العين التي يتفجر مأوها من أحد الكهوف كانت السبب في قيام مدينة عظيمة عاشت أحداث العصر ودفعت غاليا ثمنا لموقعها وسط القوافل التجارية والأطماع العسكرية.
ننطلق من دمشق إلى تدمر عبر أقصر الطرق، والذي يبلغ طوله 245 كيلو مترا. من النافذة نرقب قاسيون يتباعد حاضنا مدينته، حانيا عليهـا، تتبعه الحقول الخضراء الفرحة بحلول الربيع، المغتسلة بشمسه الدافئة. أتابع الطبيعة الخلابة، لكن تدمر وملكتهـا زنوبيا يقتحمان مخيلتي ويقطعان في هذه المراقبة. كلمة تدمر تعني الأعجوبة باللغة التدمرية القديمة، كما كان يطلق عليها أيضا تدمرتو وتعني الجميلة، والاسمان مطابقان لتلك البقعة القائمة وسط الصحراء، وليس أدل على ذلك من زعم عرب الجاهلية بأن الجن هم من قال ببناء تدمر، ولعلهم زعموا ذلك بسبب عظمة مبانيها ودقتها.
أما السبب الأساسي في وجود هذه الواحة في وسط الصحراء القاحلة فهو نبع ماء كبريتي يتدفق من جوف أحد الكهوف، وجده الإنسان القديم منذ العصور الحجرية الحديثة، أي الألف العاشرة قبل الميلاد، هذا ما تدلل عليه الكهوف المكتشفة حول المدينة، والتي عثر بداخلهـا على آثار عضوية أدوات صوانية صنعها الإنسان.
أما أقدم وثائق رسمية وجدت عن مدينة تدمر فتعود إلى القرن الواحد والعشرين قبل الميلاد في. منطقة كبادوكيا بالأناضول، ثم في مدينة ماري على الفرات الأوسط، تذكر هذه الوثائق وجود تدمر منذ زمن حامورابي، أي القرن الثامن عشر قبل الميلاد.
بعد ذلك يطوي التاريخ أسرار تدمر (ولكن ليس إلى الأبد، فالحفريات لم تظهر أكثر من 40% من آثارها) حتى القرن الرابع عشر قبل الميلاد حينما يذكرها الذين كتبوا التوراة، وأيضا ذكرت في رقيم كشف حديثا في مسكنة/ إيمار على ضفاف الفرات في نص يعود للقرن الرابع عشر أو الثالث عشر قبل الميلاد، وفيه أول طبعة ختم تدمري معروفة حتى الآن.
وفى القرن الحادي عشر ق.م يقول الملك الآشوري تغلات فلاصر الأول في حولياته: "حاربت سكان تدمر الآراميين وعدت بالغنائم إلى آشور".
وفي القرن الثاني قبل الميلاد كانت تدمر قد استقرت كإمارة عربية. وهناك شواهد مادية وأدبية تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد تدل على أن تدمر كانت تضم آنذاك مدينه على جانب من الأهمية.
ويذكر أنه في عام 14 ق. م عادت كليوباترا بحرا إلى مصر، وأرسل مارك أنطونيو فرسانه إلى تدمر وأمرهم بنهبها، لكن هذه الحملة لم تنجح فقد أخلى أهل تدمر مدينتهـم وعبروا الفرات بأرزاقهـم، وعبر النهر أخذوا يصلون فرسان أنطونيو بوابل سهامهم الشهيرة.
على أنه يعتقد أن الغزو الروماني لتدمر كان عام 64 / 65 ق. م، لكن الكتابات التي وجدت وتعود لمطلع القرن الأول الميلادي، تدل على أن تدمر قبل إلحاقها بروما كان لا نظام حكم يقوم على مجلس للشيوخ ومجلس للشعب، مع الإبقاء على دور العشيرة المهم. وهذا الحكم لم يتغير كثيرا بعد الوصاية الرومانية على تدمر. وكتابعة لروما أخذت تدمر تدفع الجزية، لكنها بقيت برغم ذلك منتعشة اقتصاديا، وتزايد نشاط طرقها التجارية.
وفي عام 106 م فقدت البتراء استقلالها على يد. الرومان. وكانت البتراء محطة رئيسية على طريق الحرير، ومنافسة لتدمر على الطرق التجارية، وبفقدها استقلالها أخذت تدمر مكانتها وأصبحت أهم محطة على هذا الطريق التجاري دون منافس ما بين مصر وجزيرة العرب وأوربا من جهة وفارس والهند والصين من جهـة ثانية. وكانت هذه الفترة الزمنية من أكثر ما عرفت تدمر انتعاشا اقتصاديا، فأكملت بناء معابدها ونظمت شوارع مدينتها.
ويبدو أن علاقة تدمر مع روما كانت حسنة، حيث حصلت تدمر من روما على رتبة "المعمرة الرومانية" عام 212 م في عهد الإمبراطور الروماني كركلا ابن الإمبراطور سبتيموس سيفيروس والأميرة الحمصية جوليا دومنا ابنة كاهن الشمس حمص، وبذلك أعفيت تدمر من دفع الضرائب.
في عام 228 م احتلت مصبات دجلة والفرات من قبل الفرس بعد استيلاء السلالة الساسانية على الحكم، وبذلك أخذت تدمر تفقد الطرق التجارية تدريجيا، وهنا تتوحد مصالح التدمريين مع مصالح الروم ويقفون جنبا إلى جنب للتصدي لمشاريع الساسانيين وإفشالها.
زنوبيا تصعد وتهبط
بعد معركة مع الفرس عام 260 م ينتصر فيها التدمريون بقيادة حاكمهم أذينة، يحوز بعدها أذينة من الإمبراطور الروماني الجديد غاليان لقب (مقوم الشرق كله) ويصبح (ملك الملوك). يحاول أذينة استرداد مفاتيح التجارة المسلوبة من قبل الساسانيين، لكنه يقتل قبل تنفيذ ذلك في ظروف غامضة عام 267 م أو 268 م. وتتولى زوجته زنوبيا أو زينب الحكم وصية على ابنها القاصر وهـب اللات. وزينب هو اسمهـا التدمري وهو أصم لنبات عطري، أما زنوبيا فهـو اسمها كما ينطق باليونانية.
كذلك تسمى الزباء لغزارة شعرها وجمالها.
لم تكن زينب ملكة عادية، كانت تجمع بين القوة والشجاعة من جهة، والحكمة والحنكة السياسية والثقافة العالية من جهـة أخرى، لقد كانت تتقن اللاتينية والفرعونية بجانب لغتهـا التدمرية، جمعت حولها الفلاسفة والعلماء، كانت طموحا قبضت بيديها على سر الخلود الذي شغل البشرية والذي حل طلاسمه قبلها جلجامش. فها هي خالدة بيننا برغم مئات السنين.
عند تولي زنوبيا الحكم أخذت ؟ تجمع العناصر العربية حولها في محاولة لتكوين دولة عربية قوية تحت زعامتها، وهذا ما كان لها فعلا، فقد استطاعت أن تتغلب على الرومان وأن تستولي على الإسكندرية أهم مدن الإمبراطورية الرومانية قاطبة، وكانت قبل ذلك قد مهدت لنفسها عند المصريين بإعلانها أنها مصرية من نسل كليوباترا. وقد عثر على نقود تدمرية سكت في الإسكندرية عامي 270، 271 م وعلى وجهها صورة القيصر الروماني أورليان بجانب صورة وهب اللات ابن زنوبيا. وهذا دليل على أن الحكم في مصر كان مشتركا بين روما وتدمر. ولم يدم هذا الاتفاق طويلا، حيث بدأ سادات روما بالضغط على الإمبراطور ليستعيد لروما مكانتها ويعيد لها الإسكندرية أهم مدنها، وما أن علمت الملكة الزباء بنوايا روما بالقضاء عليها، حتى قامت بإلغاء الاتفاق المعقود بينهما وإزالة صورة القيصر الروماني عن النقود. واستعدادا للمواجهـة يقال إنها وحدت خططهـا مع الملكة فكتوريا ملكة الغال، في مهاجمة الإمبراطورية الرومانية وتفكيكها. لقد وصلت جيوشها إلى الشمال الغربي حتى أنقرة، ووصلت إلى خلقدونية مقابل بيزنطة. وهكذا استطاعت زنوبيا أن تقيم إمبراطورية عربية انتزعتها من براثن الروم وهم في أوج قوتهم، لكنهـا لم تدم طويلا، ولم تتمكن من المحافظة عليهـا بسبب اتساعها وترامي أطرافها. ومن ثم استطاع الرومان العودة مرة أخرى، وكسب المعركة أمام زنوبيا، واقتيادها وهي في كامل زينتها مقيدة بسلاسل الذهب إلى روما لتقضي هناك بعيدة عن وطنها وأرضها وأمجادها، لكن تبقى خالدة بين شعبها برغم الزمن.
لقد اعترف الرومان بشجاعة زنوبيا وقوتها، وتحدثوا عنها بانبهـار. يقول مؤرخوهم إنها من أجمل نساء العالم قاطبة، فارسة، مقاتلة متمرسة، تشارك جنودها القتال وتسير معهـم على الأقدار مسافات طويلة، تتمتع بالكرم العربي والأخلاق العربية الأصيلة.
أستأذن من تدمر وزنوبيا قليلا، وألقي نظرة حولي، لا بد أننا قطعنا مسافة لا بأس بها، الصحراء الموشاة بعطايا الربيع تحيط بنا من كل جانب، الخيام البدوية وقطعان الماشية تتناثر على جنباتها، منظر رائع يزيد من روعته وسحره الهدوء والسكينة، ينطلق نظرنا حرا يجوب المساحات الشاسعة دون حدود أو سدود توقفه. ويحدثني أحد الزملاء بجانبي عن الصحراء والصيد بهذه المنطقة، صيد الأرانب وصيد الطيور، والتي من أنها صيد الصقر الذي يوجد في شهر سبتمبر، حيث يقضي صيادوه من البدو الأوقات الطويلة في ترقب ويقظة لاصطياده، وربما ينتهي الموسم ومواسم أيضا دون أن يحالفهم الحظ، لكن من يكون الحظ معه ويتمكن من الصقر فكأنه وقع على كنز يجني من ورائه المبالغ. الخيالية.
يقترب بنا الطريق أكثر فأكثر، وأخيرا نصل إلى تدمر التي تستقبلنا ببياراتها الخضراء على اليمين وعلى اليسار تستقبلنا أوابدها كشاهد على عظمتها وتاريخها العريق، شامخة بكبرياء لا يلبث أن ينتقل إليك، وتجيب عن سؤال يلح عليك، من أين أبدأ؟... من هنا،... أجل نبدأ بآثارها نستمع إلى حكاياتها وحكايات من مروا بها.
نزور أولا نبع أفقا، الذي هو السبب الأساسي في وجود هذه الراحة منذ الأزمنة السحيقة. وأفقا كلمة آرامية تعني "خروج الماء". وهذا النبع يتدفق من كهف في جنوب جبل المنظار يمتد أكثر من 350 مترا، نظم مدخله وبني معبدصغير لرب النبع، كما تذكر الكتابات المكتشفة فيه وتصف هذا الرب بـ "الطيب المبارك الرحمن الرحيم). وما يجذب الانتباه في هذه العبارة هو وصف الرب بالرحمن الرحيم، وهي من أسماء الله الحسنى.
والتي لا بد أن تكون ما بقي من عقيدة التوحيد.
مياه النبع مياه كبريتية، حرارتها ثابتة 33 درجة مئوية. عثر في مدخل الكهف عل عدة مذابح من الحجر المنحوت تبين أن المياه موزعة بين المواطنين بأمر من الرب "يرحبول" إله الشمس، وأن "القيم" وهو أحد رجال المدينة ينفذ الأمر الإلهي. لكن منذ مدة قليلة بدأ ينخفض، منسوب المياه في هذا النبع، والسبب في ذلك ربما يعود إلى كثرة الآبار التي جرى حفرهـا أخيرا قرب النبع.
وقبل أن نتجول بين الآثار الممتدة على مساحة واسعة، نتجه إلى المتحف الذي يقع في مدخل المدينة في ساحة الملكة زنوبيا.
نشاهد في المدخل الخارجي للمتحف تمثال أسد تدمر المكتشف في معبداللات عام 1977 م وهو من منحوتات القرن الأول قبل الميلاد، يرمز للربة العربية اللات كربة للحرب، والأسد رمز القوة التي تنفذ إرادتها. على يده اليسرى كتابة تدمرية تقول: "إن الربة اللات تبارك كل من لا يسفك الدم في المعبد" بما يعني حق اللجوء إلى المعبد. وهذا تجسيد، للتقاليد العربية التي بقيت سائدة.
جولة في المتحف
ندخل المتحف، أول ما يطالعنا نموذج لأحد الكهوف المكتشفة حول تدمر، يمثل إنسان العصر الحجري، نتجاوزه ونتجول داخل أروقة المتحف وقاعاته، نشعر وكأننا نركب آلة الزمن تنقلنا من زمن إلى آخر، نشاهد حضارات مختلفة، حضارات عربية تعاقبت على هذه المنطقة، وآثارا أخرى غربية وشرقية وجدت إثر غزو أو فتح أجنبي، أو إثر علاقات وصداقات مع شعوب أخرى، يظهر تأثر الفن التدمري بتلك الحضارات، لكن دون أن يفقد طابعه الشرقي التدمري المميز.
ومما نشاهده في المتحف لوحة تحوي موجزا عن اللغة والكتابة التدمرية وأبجديتها وأرقامها. واللغة التدمرية لهجة آرامية غربية انتشرت كلغة دولية من الهند حتى مصر ما بين القرنين السادس والسابع بعد الميلاد.
تمتلئ قاعات المتحف بتماثيل الآلهة والقادة، وألواح عليها كتابات تدمرية وعملات قديمة تعود لعدة حضارات، وأوان خزفية إسلامية وغير إسلامية، لكن ما يشد انتباهنا مومياوان محنطتان تعودان إلى بداية القرن الثالث الميلادي، وهما لشخصين من عامة الشعب، وهذا ما يدل على أن التحنيط كان متبعا وبشكل واسع في تدمر وما يجعل المهتمين بالآثار يتوقعون العثور على المزيد من المومياوات وخصوصا مومياوات تعود للطبقة الحاكمة وتكشف المزيد من تاريخ هذه المدينة.
وفي إحدى قاعات المتحف نشاهد مذبحا يمثل الربة العربية اللات، ومن منا لم يسمع بها؟ وقد أتى ذكرها في القرآن الكريم تقريعا لعبدة الأوثان في قوله تعالى: أفرءيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى الآيتان 19 و 20 من سورة النجم. واللات كما لدى الشعوب لا تلك الأزمنة رمز للحرب والسلام، وهي نفسها عشتار البابلية وإيزيس المصرية وعستارت الكنعانية وفينوس الرومانية، يتغير اسمها من مكان إلى آخر لكن يبقى الجوهـر واحدا، تعبر عنه إيزيس إذ تقول عن نفسهـا في أحد النصوص: "أنا أم الأشياء جميعا، سيدة العناصر وبادئة العوالم، حاكمة ما في السماوات من فوق وما في الجحيم من تحت، مركز القوة الربانية، أنا الحقيقة الكامنة وراء الآلهة والآلهات، عندي يجتمعون في شكل واحد وهيئة واحدة، بيدي أقدر أجرام السماء وريح البحر وصمت الجحيم، يعبدني العالم بطرق شتى، أما اسمي الحقيقي فهـو "إيزيس" به توجهـوا إلي بالدعاء".
6/8/2023, 9:34 pm من طرف روان علي شريف
» أنا بهذه اللحظة
10/28/2021, 8:01 am من طرف جاك
» على الرصيف
6/13/2020, 5:40 pm من طرف روان علي شريف
» بوابة الجحيم
6/13/2020, 4:58 pm من طرف روان علي شريف
» الكاتب علي شريف روان في حوار لـ"الديوان"
6/28/2019, 5:05 pm من طرف روان علي شريف
» فردوس مليندا المفقود.
3/12/2019, 1:20 am من طرف روان علي شريف
» بدري فركوح
3/4/2019, 11:56 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» ليلى العفيفة
3/4/2019, 11:52 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» مجموعة مؤلفات محمد حسنين هيكل
1/27/2019, 3:42 pm من طرف نبيل اوزاعي
» ألفية العياط فى النحو
11/9/2018, 3:13 am من طرف محمود العياط
» ديوان إنشق القمر
8/14/2018, 2:05 am من طرف محمود العياط
» ديوان بومبا والاقزام
2/25/2018, 3:39 am من طرف محمود العياط
» بريد الموتى
1/23/2018, 2:35 am من طرف روان علي شريف
» ديوان دحش قرم ودانك
12/21/2017, 4:33 am من طرف محمود العياط
» ديوان حادى يابادى يا كرنب زبادى
10/14/2017, 6:21 am من طرف محمود العياط
» من عجائب الأرقام
5/24/2017, 9:36 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» ابن الرومي
5/24/2017, 9:20 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» قصيدة حبك وقلبى
8/13/2016, 11:05 pm من طرف محمود العياط
» الأعشى الأكبر
6/11/2016, 4:17 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» مساء الخير
5/2/2015, 8:40 am من طرف السراب
» مي زيادة
4/22/2015, 11:17 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» لبيد بن ربيعة
12/28/2014, 4:44 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» زهير بن أبي سلمى
12/20/2014, 4:32 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» جبران خليل جبران
12/5/2014, 2:16 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» إيايا أبو ماضي
11/5/2014, 2:09 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» حمل برنامح تعلم اللغة الانجليزيه على جهازك المحمول
9/11/2014, 10:04 pm من طرف poopy87
» أوبريت ملحمة تحتمس الرابع ولوحة الاحلام
7/28/2014, 9:41 am من طرف محمود العياط
» سيف الفراق
7/22/2014, 2:59 am من طرف محمود العياط
» ديوان اعشقك جدا
7/22/2014, 2:56 am من طرف محمود العياط
» ديوان الحديث مع النفس البشرية
7/22/2014, 2:54 am من طرف محمود العياط
» عمرو بن كلثوم
6/14/2014, 6:02 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» طرفة بن العبد
5/28/2014, 5:26 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» ديوان رصاصة فى قلب الجياد العجوزة
5/20/2014, 10:40 pm من طرف محمود العياط
» شهداء 6 أيار 1916
5/6/2014, 5:45 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» الياس قنصل
4/23/2014, 4:20 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» زكي قنصل
4/23/2014, 4:18 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» فضائية الجزيرة إحدى أسلحة قطر
4/3/2014, 6:05 pm من طرف طالب علي
» إضافة رائعة للفايرفوكس ( ميزة AutoPager ) تجعل كل المواضيع في صفحة واحدة
4/2/2014, 4:47 pm من طرف العـدوي
» محمود درويش مؤلفات ودواوين
3/20/2014, 9:56 pm من طرف wadfay
» حاتم الطائي
3/20/2014, 6:35 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» حكمة اليوم
3/2/2014, 6:03 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» امرؤ القيس
3/2/2014, 5:55 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» محتويات مكتبة الروايات
2/9/2014, 4:26 pm من طرف أريج الورد
» تقديم ديوان رصاصة فى قلب الجياد العجوزة محمود العياط
2/1/2014, 8:33 pm من طرف محمود العياط
» الحارث بن حلزة
1/21/2014, 7:36 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» مجموعة من الاغاني النادرة لكاظم الساهر تجدونها عند السراب فقط لا غير
1/19/2014, 10:02 am من طرف mas12ter
» رخصة زواج للمؤجل اداريا
1/8/2014, 9:17 am من طرف anas198510
» الف ليلة وليلة
1/8/2014, 2:01 am من طرف سعيد خليف
» عنترة العبسي
1/5/2014, 6:30 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» معجم المصطلحات النفسية انكليزي فرنسي عربي
11/24/2013, 1:33 pm من طرف محمد حمد