التحكيم في العقود الإدارية للدكتور موسى خليل متري

التحكيم في العقود الإدارية
في ضوء القانون (4) لعام 2008 والقانون (51) لعام 2004

الدكتور موسى خليل متري
رئيس قسم القانون التجاري بكلية الحقوق
جامعة دمشق

بتاريخ 25 آذار 2008 أصدر السيد رئيس الجمهورية القانون رقم 4 لعام 2008 والمتعلق بحل النزاعات تحكيماً .
جاء هذا القانون ليتماشى مع سياسة تحديث وتطوير القوانين في سورية وبناء على مطلب من الحقوقيين ورجال الأعمال .
في البداية ، وضعت اللجنة المشكلة لتحديث قانون التجارة فصلاً كاملاً حول التحكيم . عند إرسال مشروع قانون التجارة إلى وزارات الدولة لإبداء ملاحظاتها عليه ، ارتأت وزارة العدل أن يكون قانون التحكيم مستقلاً ليشمل النزاعات التجارية وغيرها وحسناً فعلت .
تم أخذ هذا القانون من التشريع المصري والذي بدوره تم أخذه من نموذج قانون التحكيم الصادر عن اليونسترال .
بمجرد صدور القانون ، تناولته بعض الأقلام بالنقد دون إبداء إيجابياته (للأسف) . من أهم الانتقادات التي تناولت القانون تتعلق بالتناقض أو الغموض في موضوع تطبيق هذا القانون على التحكيم في العقود الإدارية والذي يتم أمام مجلس الدولة حيث أشار البعض إلى أن التحكيم أمام مجلس الدولة يكون وفقاً لمواد قانون أصول المحاكمات بالرغم من صدور القانون رقم 4/2008 الذي ألغى المواد 506-534 من قانون أصول المحاكمات .
لذا ، أرغب بتناول هذا الموضوع لبدء مناقشة قانونية مع زملائي الحقوقيين غايتها الوصول إلى أفضل تفسير وفهم للقانون رقم 4 لعام 2008 وتطبيقه على التحكيم في العقود الإدارية .
البحث في مدى تطبيق القانون رقم 4 لعام 2008 على العقود الإدارية يكون بدراسة النصوص القانونية وتفسيرها واستخلاص النتائج القانونية .


أولاً – في مضمون النصوص التشريعية :
1 – نصوص القوانين :
آ – تنص المادة 3 من القانون رقم 55 لسنة 1959 المتعلق بتنظيم مجلس الدولة على ما يأتي : «تطبق الإجراءات المنصوص عليها في هذا القانون ، وتطبق أحكام قانون المرافعات وقانون أصول المحاكمات فيما لم يرد فيه نص وذلك على أن يصدر قانون بالإجراءات الخاصة بالقسم القضائي» .
ب – نصت المادة 66 من القانون رقم 51 لسنة 2004 المتضمن نظام العقود في الجهات العامة على ما يأتي :
« 1 – القضاء الإداري في الجمهورية العربية السورية هو المرجع المختص للبت في كل نزاع ينشأ عن العقد .
2 – يجوز أن ينص في دفاتر الشروط الخاصة والعقد على اللجوء إلى التحكيم وفقاً للأصول المتبعة أمام القضاء الإداري وتشكل لجنة التحكيم برئاسة مستشار من مجلس الدولة يسميه رئيس مجلس الدولة وعضوين تختار أحدهما الجهة العامة ويختار المتعهد العضو الآخر .
3 – يمكن أن ينص في العقود الخارجية بموافقة الوزير المختص بالذات على جهة تحكيمية خاصة خلافاً لأحكام البندين (آ ، ب) السابقين » .
ج – تنص المادة 2/2 من القانون رقم 4 لسنة 2008 الخاص بالتحكيم على ما يأتي : « يبقى التحكيم في منازعات العقود الإدارية خاضعاً لأحكام المادة 66 من نظام العقود الصادر بالقانون رقم 51 تاريخ 9/12/2004 .
د – تنص المادتان 64 و 65 من القانون رقم 4 لسنة 2008 على ما يأتي : « تلغى المواد 506 إلى 534 من قانون اصول المحاكمات الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 84 لعام 1953 وتعديلاته » . « تبقى اتفاقيات التحكيم المبرمة قبل نفاذ هذا القانون خاضعة للأحكام التي كانت سارية بتاريخ إبرامها سواء أكانت إجراءات التحكيم قد بوشرت أم لم تباشر » .
2 – في المناقشة :
آ – عملاً بأحكام المادة 3 من قانون مجلس الدولة رقم 55 لسنة 1959 ، طبق مجلس الدولة قانون أصول المحاكمات الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 84 لسنة 1953 وتعديلاته باستثناء الأصول المتعارضة مع ما ورد في مواد القانون رقم55/1959.
كما طبق هذا القانون في جميع التحكيمات التي تمت ضمن مجلس الدولة على العقود التي كانت من اختصاص مجلس الدولة .
ب – من المبادئ القانونية المقررة ، أنه لا يمكن إلغاء نص تشريعي إلا بنص تشريعي آخر ، والمادة 64 صريحة لجهة إلغاء المواد 506 إلى 534 من قانون أصول المحاكمات . وهذا الإلغاء نافذ اعتباراً من تاريخ نشر القانون رقم 4 لسنة 2008 في الجريدة الرسمية .
وبالتالي أصبحت المواد 506 – 534 اعتباراً من نهاية شهر آذار 2008 ملغاة ولا يشير هذا الإلغاء إلى أي استثناء إلا ما ورد بالمادة 65 منه .
ج – المادة 65 من القانون رقم 4 نصت على بقاء الحال على ما هو عليه بخصوص أي اتفاقية تحكيم أبرمت قبل تاريخ نفاذ القانون رقم 4 لسنة 2008 حتى لو تمت مباشرة إجراءات التحكيم في مرحلة لاحقة لتاريخ صدوره ، أي أن المادة 65 من القانون رقم 4 تضمنت استثناء على إلغاء المواد 506 – 534 من حيث زمان تطبيق القانون رقم 4/2008 . وقد ذهب العديد من اجتهادات محكمة النقض على تكريس قاعدة الاستثناء في تطبيق القانون من حيث الزمان وبخاصة تلك المتعلقة بقانون أصول المحاكمات.
ومن بين هذه القرارات القرار الصادر عن محكمة النقض برقم 1566 أساس 2413 تاريخ 27/10/1980 والذي جاء فيه قولها : « القضايا التي فصلت فيها المحاكم البدائية قبل المرسوم 13 لسنة 1979 والذي جعل هذه القضايا من اختصاص محاكم الصلح ، يستمر اختصاص محاكم الاستئناف في نظرها عند الطاعن بها ، كما أن أحكام الاستئناف تستمر قابلة للطعن بالنقض » (1) .
هذا الاجتهاد المستقر ، تناول استثناء في تطبيق قانون الأصول فيما إذا كانت الدعوى قد بدأت فعلاً ، لكن الاستثناء الوارد في المادة 65 من القانون رقم 4/2008 تسري على الإجراءات التحكيمية التي لم تبدأ إذا كان الاتفاق أو الشرط التحكيمي أبرم أثناء نفاذ المواد الملغاة . والسبب وراء هذا الاستثناء يعود إلى أن التحكيم يكون اتفاقاً (أي أن الأساس القانوني للتحكيم هو الاتفاق) ، وحيث إن الاتفاق التحكيمي أبرم في نطاق قانون أو مواد قانونية محددة فتبقى هذه المواد نافذة في حال بدأت الإجراءات التحكيمية بتاريخ لاحق تماماً كما لو أن عقداً إدارياً أبرم في ظل المرسوم 195 لسنة 1974 المتضمن نظام العقود للمؤسسات العامة والشركات العامة والمنشآت ، فتبقى أحكام هذا المرسوم نافذة فيما لو نشأ النزاع بعد نفاذ القانون رقم 51 لسنة 2004 .
ثانياً – الاستثناء الوارد بالمادة 2/2/ من القانون رقم 4 لعام 2008 :
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : هل يمكن اعتبار المادة 2/2 من القانون رقم 4/2008 بمثابة استثناء على المادة 64 من نفس القانون ؟ جواب هذا السؤال يكون على مستوى كيفية تطبيق قانون أصول المحاكمات وطرق تفسير القوانين :
1 – للجواب على هذا السؤال لا بد من بيان أن الاستثناء في قانون أصول المحاكمات يكون إما في الزمان أو في المكان لكن لا يوجد استثناء مطلق ، ويمكن أن يكون هنالك تنازع في قواعد قانون الأصول لجهة الزمان أو المكان . فعندما يطرأ تعديل على النظام القضائي أو قانون أصول المحاكمات ، لا بد من التساؤل عما إذا كان القانون الجديد يمكن تطبيقه فوراً على الدعاوى القائمة أمام المحاكم عند صدوره أم لا ؟
وبالعودة إلى القانون رقم 4 لسنة 2008 نجد أنه عدل المواد 605 – 534 من قانون أصول المحاكمات المذكورة آنفاً ونصت المادة 65 منه على كيفية التعامل مع تنازع قواعد القانون فأبقت على صلاحية المواد 506 – 534 من حيث الزمان بخصوص الاتفاقيات التحكيمية المبرمة في ظلها ، لذا لا توجد أية مشكلة بهذا الصدد .
المشكلة تثور عند المادة 2/2/ التي أبقت التحكيم في منازعات العقود الإدارية خاضعاً لأحكام المادة 66 من نظام العقود الصادر بالقانون رقم 51 لسنة 2004 .
فالفقرة /ب/ من المادة 66 من القانون رقم 51/2004 لا تعطف على قانون أصول المحاكمات بل على الأصول المتبعة أمام القضاء الإداري .
والأصول المتبعة أمام القضاء الإداري هو قانون أصول المحاكمات إلا ما تعارض من أحكامه مع قانون مجلس الدولة (وفقاً للمادة 3 من قانون مجلس الدولة) .
والمادة 64 من القانون رقم 4/2008 ألغت (بشكل مطلق) المواد 506 – 534 من قانون أصول المحاكمات وبالتالي يجب على القضاء الإداري والتحكيم الذي يتم بعد صدوره أمام القضاء الإداري اعتبار القانون رقم 4/2008 قد حل محل مواد كانت جزءاً من قانون أصول المحاكمات (باستثناء إجراءات التحكيم التي تتم وفقاً لاتفاق تحكيمي أبرم في ظل نفاذ المواد 605 – 534 من قانون أصول المحاكمات).
2 – تأكيداً للتفسير المتقدم يجب أيضاً الرجوع إلى الأساليب القانونية المتبعة في تفسير القواعد القانونية .
هنالك أسلوبان أساسيان في تفسير القواعد القانونية وكلا التفسيرين يعتمد على المبدأ الشرعي والقانوني القائل : « العبرة للمقاصد والمعاني وليس للألفاظ والمباني » .
فالأسلوب الأول فقهي يستند على القياس والاستنتاج بما يتوافق ومصلحة المجتمع .
هذا الأسلوب يعطي القوانين مرونة في التطبيق مع تغير الظروف ، ومرونة القوانين مطلوبة لتفادي التعديل المستمر لها ، وقد تم اعتماده في الشرح السابق .
أما الأسلوب الآخر ويدعى الأسلوب الخارجي في تفسير التشريع ويعطف فيه الحقوقي على الأعمال التحضيرية و/أو الروح العامة للتشريع وحكمته (الغاية من التشريع) .
وإذا اطلعنا على السبب وراء صياغة المادة 2/2 من القانون رقم 4/2008 نجد أن المشرع كان يهدف فقط إلى المحافظة على اختصاص مجلس الدولة للبت بأي تحكيم يجري بخصوص عقد إداري أو عقد أبرم بموجب القانون رقم 51/2004 .
وهذا الاستنتاج لنية المشرع نجده من سياق القانون رقم 4/2008 حيث وردت المادة 2/2/ منه بعد المادة 2/1 التي تتناول الاختصاص الإقليمي والدولي وقبل المادة 3 التي منحت الاختصاص النوعي لمحكمة الاستئناف المختصة مكانياً أي أن المادة 2/2 تناولت مسألة الاختصاص دون زيادة أو نقصان.
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن الروح العامة للتشريع وحكمته (وهذا هو الأسلوب الثاني لتفسير القوانين) تدلان على أن القانون رقم 4/2008 حل محل المواد 506 – 534 من قانون أصول المحاكمات لأنه أحدث وأفضل منها ومأخوذ من التشريعات الحديثة المطبقة في دول العالم ومن القانون النمطي الصادر عن اليونسترال ، وبالتالي ، لا يمكن أن نطلب (وفقاً لروح القانون والغاية من وراء صدوره) من القضاء الإداري تطبيق قواعد قانونية ملغاة صراحة وأقل حداثة وتوافقاً مع التحكيم ولا يوجد نص صريح على الاستثناء عليها .
ثالثاً – في الخلاصة :
لا يوجد أي فراغ تشريعي في مسألة التحكيم بالعقود الإدارية ولكن يوجد غموض أو سوء صياغة في مواد القانون رقم 4 لعام 2008 . ولتفسير هذا التعارض أو الغموض يمكن اللجوء إلى أحد الأسلوبين التاليين :
1 – الأسلوب التشريعي والذي يقتضي إصدار تشريع يزيل الغموض أو التناقض ويعدل القانون رقم 4 لسنة 2008 وهذا الأسلوب غير محبذ لعدم وجود حاجة لذلك ولأن التعديل التشريعي قد يستغرق وقتاً طويلاً .
2 – الأسلوب القضائي ، إذ من اختصاص القضاء تفسير القوانين في معرض تطبيقها . لذا يعود إلى القضاء الإداري في معرض الدعاوى التحكيمية التي ينظر بها إعطاء التفسير السابق وشرح سوء الصياغة للمادتين 64 و 2/2 من القانون 4 لعام 2008 .
أن التفسير القضائي قد يطول عشرات السنين باعتبار أن المادة 65 سمحت بتطبيق المواد 506-534 من قانون أصول المحاكمات في أي إجراء تحكيمي تم بموجب اتفاق تحكيمي أبرم في ظل نفاذ هذه المواد .
لذا ولتجنب الانتظار الطويل ، يمكن لإحدى شركات القطاع العام أو دوائر الدولة توجيه كتاب إلى مجلس الدولة بهيئته العامة تطلب فيه تفسير هذا الغموض ، عندها نكون أمام رأي استشاري للهيئة العامة لمجلس الدولة وإن كان غير ملزم ولكنه سوف يكون ذا دلالة في تحكيم النزاعات التي تنشأ عن عقود تبرم وفقاً للقانون رقم 51 لسنة 2004 .
د. موسى خليل متري

منقول من موقع مجلة القانون