ما الذي يجعلنا نريد أن نعرف عن فيروز أكثر؟ أن نعرف هذه التفاصيل العادية، اليومية، التي لا تعنينا بشيء لو تعلّقت بأي شخص آخر، فناناً أم غير فنان؟ ربما لأننا إلى هذا الحدّ نريد اكتشاف اللغز الكبير، ليس لغزها كامرأة، وهي سيدة بسيطة وواضحة على ما يجمع كثر ممن التقوها، بل لغز حضورها ومكانتها عندنا. نروح نبحث خارج الأغنيات، تحديداً لأن الأغنيات، على مر السنوات والعقود، رسمت هذه الصورة الخرافية، فنحسب أننا خارج الأغنيات سنجد جواباً عما هو غير استثنائي ولا خرافي. السؤال إذاً، ليس سؤالاً حول كيف تعيش فيروز، هو في العمق، سؤال حول روح فيروز. ما هي طبيعة هذه الروح. نفهم مثلاً أن أم كلثوم كانت صاحبة صوت هائل، وندرك مسيرتها جيداً، يحيّرنا فيها قوة هذا الصوت، أو هجنته أو عوالمه، كما يحيّرنا عالمها الداخلي المقفل، ونرغب باكتشاف أسرار ما حولها تعطينا لمحة ضوء إضافية، أما بالنسبة إلى فيروز، فالبحث دائماً ليس "تقنياً"، ليس حول القدرة، ليس حول الموهبة، ولا الذكاء في الاستمرار، ولا حول عالمها السري، وما إلى ذلك من أمور تطرح حول الفنانين، السؤال يبقى دائماً نفسه، حول روح هذه السيدة، حول جوهر غامض ما لهذه الروح.
غير أن ما يمكن إدراكه بقليل من التأمل هو أن هذه الروح الغامضة الملهمة، التي صارت ألحاناً وأغنيات، لم تكن يوماً صنيعة نفسها فقط. هذه الروح هي، على نحو ما، صنيعة زمنها أيضاً. ما نحاول دائماً النفاذ إليه هو كيف استطاعت هذه السيدة، مع كل الأسماء التي شكّلتها عبر السنوات، أن تصير صوت زمننا. صوت الزمن الراهن والماضي على حدّ سواء. فيروز هي في نهاية الأمر ذلك الصوت الملحّ، الذي يطرق باستمرار في جوانب الذاكرة، ذاكرتنا الفردية كما الجماعية، للفقدان، لكل ما هو ضائع أو في طريقه إلى ضياع مؤكّد. بمعنى ما هي صوت الطفولة المفقودة والمفتقدة، ذلك الإحساس الدائم بجنة لم تعش إلا قليلاً، ثم لم تعد ولن تعود بعد ذلك.
أتأمل زمننا قليلاً. لا أجدني مبالغاً حين أحسّ أن كل ما "صنعناه" نحن أبناء هذا الزمن، الممتد إلى جيلين أو أكثر، ما يستحق أن نقف طويلاً جداً عنده، هو هذه الظاهرة التي اسمها فيروز، تلك الكناية الرائعة عن زمننا بكل ما فيه من آلام وأحلام دافئة، وحس عميق بالفقدان. هي فيروز كلها. وليست أي "نتاج فني" آخر. سيناقش من يناقش، بغير طائل، حول "تراجع" صوت فيروز. نقاش تقني سخيف، تفوته النقطة الجوهرية: ليس ما قدّمته فيروز ربطاً بزمننا أو أزمنتنا فحسب، بل ما تقدّمه فيروز ربطاً بأزمنتنا الحالية وتلك الآتية. لعل ذلك اتخذ شكله الأصفى والأنقى في الشراكة مع زياد الرحباني، لكنه على نحو ما امتداد لمسار كامل. اليوم، نستمع إلى أغنيات عاطفية من قبيل "صباح ومسا"، أو "ولا كيف"، أو غيرها. هل نستطيع أن نستمع إلى هذه الأغنيات خارج زمنها اللبناني، تحديداً البيروتي الراهن، زمن التسعينات وما بعدها في بيروت. الأمر نفسه بالنسبة إلى "كيفك إنت". ألم يفت بعضنا، حين خاض النقاش "التقني" حول الصوت وقدراته القديمة والحديثة مثل هذا الاكتشاف البديهي؟ أن ما نسمعه الآن، هو روح زمننا ونبضه؟ هو، بامتياز، روح مكاننا أيضاً. لن يبدو ذلك واضحاً إلا حين نضعه على خلفية كل ما ينتج فنياً من حولنا وعلى امتداد العالم العربي، وبين عاصمتيه الفنيتين، أي بيروت والقاهرة، لن يكون قليل الشأن أن نكتشف أنه بين كل هذا الركام من الإنتاج الفني، الاستهلاكي أو الذي يزعم جدة وطموحاً فنيين، بين كل هذا كان هناك عبر التسعينات، وحتى الآن، صوت واحد تمكّن من أن يقول زمننا: ما يضطرم في زمننا من حزن داخلي عميق، من هشاشة، من رغبة مقموعة بالفرح، من إحساس بالعدمية والفراغ. كل ذلك تأتي أغنية حب، مجرد أغنية حب، لتقوله دفعة واحدة، وهو أمر لا نراه كثيراً في عالمنا العربي الفارغ، بل نكاد لا نراه.
لعلّ هذا هو لغز فيروز الحقيقي. لا تحتاج إلى أن تغني اليوم حول العراق مثلاً، أو أن تصدر "بياناً" أو موقفاً ما حول "الانتفاضة"، حول ما يجري في لبنان.. الخ. لم تفعل فيروز ذلك في السابق ولن تفعله اليوم. لا تحتاج إلى أغنيات مباشرة تحكي ملحمياً ما جرى ويجري. الصوت وحده، بما يعتمل ويختمر فيه، بما هو صوت روح، وبما هو روح زمن، ينجز مثل هذه المهمة. "رفيقي صبحي الجيز" تنجز مثل هذه المهمة، أغنية "مريم" تنجزها، "صباح ومسا".. الخ.. هذه الأغنيات، إذ نستمع إليها طازجة، وقت صدورها، متلهفين لهضمها كاملة، لنسبها إلى موقع فيروز في أعماقنا، تبدأ بالتخمّر مع الأيام التالية، حين تنتسب إلى الاستماع الفردي غير المحكوم بأي مناسبة، وعندها نكتشف، كل على حدة، أنه ثمة وراء الكلمات، ما يتجاوز إحساسنا المباشر تجاهها، ثمة تلك القدرة الهائلة للزمن، لكي يستمر بعد انتهائه، بعد افتقاده، لكي يصبح ثمة معنى ما، حقيقياً وأصلياً، لما نعيشه، وسط هذا الخراب الهائل.
غير أن ما يمكن إدراكه بقليل من التأمل هو أن هذه الروح الغامضة الملهمة، التي صارت ألحاناً وأغنيات، لم تكن يوماً صنيعة نفسها فقط. هذه الروح هي، على نحو ما، صنيعة زمنها أيضاً. ما نحاول دائماً النفاذ إليه هو كيف استطاعت هذه السيدة، مع كل الأسماء التي شكّلتها عبر السنوات، أن تصير صوت زمننا. صوت الزمن الراهن والماضي على حدّ سواء. فيروز هي في نهاية الأمر ذلك الصوت الملحّ، الذي يطرق باستمرار في جوانب الذاكرة، ذاكرتنا الفردية كما الجماعية، للفقدان، لكل ما هو ضائع أو في طريقه إلى ضياع مؤكّد. بمعنى ما هي صوت الطفولة المفقودة والمفتقدة، ذلك الإحساس الدائم بجنة لم تعش إلا قليلاً، ثم لم تعد ولن تعود بعد ذلك.
أتأمل زمننا قليلاً. لا أجدني مبالغاً حين أحسّ أن كل ما "صنعناه" نحن أبناء هذا الزمن، الممتد إلى جيلين أو أكثر، ما يستحق أن نقف طويلاً جداً عنده، هو هذه الظاهرة التي اسمها فيروز، تلك الكناية الرائعة عن زمننا بكل ما فيه من آلام وأحلام دافئة، وحس عميق بالفقدان. هي فيروز كلها. وليست أي "نتاج فني" آخر. سيناقش من يناقش، بغير طائل، حول "تراجع" صوت فيروز. نقاش تقني سخيف، تفوته النقطة الجوهرية: ليس ما قدّمته فيروز ربطاً بزمننا أو أزمنتنا فحسب، بل ما تقدّمه فيروز ربطاً بأزمنتنا الحالية وتلك الآتية. لعل ذلك اتخذ شكله الأصفى والأنقى في الشراكة مع زياد الرحباني، لكنه على نحو ما امتداد لمسار كامل. اليوم، نستمع إلى أغنيات عاطفية من قبيل "صباح ومسا"، أو "ولا كيف"، أو غيرها. هل نستطيع أن نستمع إلى هذه الأغنيات خارج زمنها اللبناني، تحديداً البيروتي الراهن، زمن التسعينات وما بعدها في بيروت. الأمر نفسه بالنسبة إلى "كيفك إنت". ألم يفت بعضنا، حين خاض النقاش "التقني" حول الصوت وقدراته القديمة والحديثة مثل هذا الاكتشاف البديهي؟ أن ما نسمعه الآن، هو روح زمننا ونبضه؟ هو، بامتياز، روح مكاننا أيضاً. لن يبدو ذلك واضحاً إلا حين نضعه على خلفية كل ما ينتج فنياً من حولنا وعلى امتداد العالم العربي، وبين عاصمتيه الفنيتين، أي بيروت والقاهرة، لن يكون قليل الشأن أن نكتشف أنه بين كل هذا الركام من الإنتاج الفني، الاستهلاكي أو الذي يزعم جدة وطموحاً فنيين، بين كل هذا كان هناك عبر التسعينات، وحتى الآن، صوت واحد تمكّن من أن يقول زمننا: ما يضطرم في زمننا من حزن داخلي عميق، من هشاشة، من رغبة مقموعة بالفرح، من إحساس بالعدمية والفراغ. كل ذلك تأتي أغنية حب، مجرد أغنية حب، لتقوله دفعة واحدة، وهو أمر لا نراه كثيراً في عالمنا العربي الفارغ، بل نكاد لا نراه.
لعلّ هذا هو لغز فيروز الحقيقي. لا تحتاج إلى أن تغني اليوم حول العراق مثلاً، أو أن تصدر "بياناً" أو موقفاً ما حول "الانتفاضة"، حول ما يجري في لبنان.. الخ. لم تفعل فيروز ذلك في السابق ولن تفعله اليوم. لا تحتاج إلى أغنيات مباشرة تحكي ملحمياً ما جرى ويجري. الصوت وحده، بما يعتمل ويختمر فيه، بما هو صوت روح، وبما هو روح زمن، ينجز مثل هذه المهمة. "رفيقي صبحي الجيز" تنجز مثل هذه المهمة، أغنية "مريم" تنجزها، "صباح ومسا".. الخ.. هذه الأغنيات، إذ نستمع إليها طازجة، وقت صدورها، متلهفين لهضمها كاملة، لنسبها إلى موقع فيروز في أعماقنا، تبدأ بالتخمّر مع الأيام التالية، حين تنتسب إلى الاستماع الفردي غير المحكوم بأي مناسبة، وعندها نكتشف، كل على حدة، أنه ثمة وراء الكلمات، ما يتجاوز إحساسنا المباشر تجاهها، ثمة تلك القدرة الهائلة للزمن، لكي يستمر بعد انتهائه، بعد افتقاده، لكي يصبح ثمة معنى ما، حقيقياً وأصلياً، لما نعيشه، وسط هذا الخراب الهائل.
6/8/2023, 9:34 pm من طرف روان علي شريف
» أنا بهذه اللحظة
10/28/2021, 8:01 am من طرف جاك
» على الرصيف
6/13/2020, 5:40 pm من طرف روان علي شريف
» بوابة الجحيم
6/13/2020, 4:58 pm من طرف روان علي شريف
» الكاتب علي شريف روان في حوار لـ"الديوان"
6/28/2019, 5:05 pm من طرف روان علي شريف
» فردوس مليندا المفقود.
3/12/2019, 1:20 am من طرف روان علي شريف
» بدري فركوح
3/4/2019, 11:56 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» ليلى العفيفة
3/4/2019, 11:52 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» مجموعة مؤلفات محمد حسنين هيكل
1/27/2019, 3:42 pm من طرف نبيل اوزاعي
» ألفية العياط فى النحو
11/9/2018, 3:13 am من طرف محمود العياط
» ديوان إنشق القمر
8/14/2018, 2:05 am من طرف محمود العياط
» ديوان بومبا والاقزام
2/25/2018, 3:39 am من طرف محمود العياط
» بريد الموتى
1/23/2018, 2:35 am من طرف روان علي شريف
» ديوان دحش قرم ودانك
12/21/2017, 4:33 am من طرف محمود العياط
» ديوان حادى يابادى يا كرنب زبادى
10/14/2017, 6:21 am من طرف محمود العياط
» من عجائب الأرقام
5/24/2017, 9:36 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» ابن الرومي
5/24/2017, 9:20 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» قصيدة حبك وقلبى
8/13/2016, 11:05 pm من طرف محمود العياط
» الأعشى الأكبر
6/11/2016, 4:17 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» مساء الخير
5/2/2015, 8:40 am من طرف السراب
» مي زيادة
4/22/2015, 11:17 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» لبيد بن ربيعة
12/28/2014, 4:44 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» زهير بن أبي سلمى
12/20/2014, 4:32 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» جبران خليل جبران
12/5/2014, 2:16 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» إيايا أبو ماضي
11/5/2014, 2:09 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» حمل برنامح تعلم اللغة الانجليزيه على جهازك المحمول
9/11/2014, 10:04 pm من طرف poopy87
» أوبريت ملحمة تحتمس الرابع ولوحة الاحلام
7/28/2014, 9:41 am من طرف محمود العياط
» سيف الفراق
7/22/2014, 2:59 am من طرف محمود العياط
» ديوان اعشقك جدا
7/22/2014, 2:56 am من طرف محمود العياط
» ديوان الحديث مع النفس البشرية
7/22/2014, 2:54 am من طرف محمود العياط
» عمرو بن كلثوم
6/14/2014, 6:02 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» طرفة بن العبد
5/28/2014, 5:26 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» ديوان رصاصة فى قلب الجياد العجوزة
5/20/2014, 10:40 pm من طرف محمود العياط
» شهداء 6 أيار 1916
5/6/2014, 5:45 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» الياس قنصل
4/23/2014, 4:20 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» زكي قنصل
4/23/2014, 4:18 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» فضائية الجزيرة إحدى أسلحة قطر
4/3/2014, 6:05 pm من طرف طالب علي
» إضافة رائعة للفايرفوكس ( ميزة AutoPager ) تجعل كل المواضيع في صفحة واحدة
4/2/2014, 4:47 pm من طرف العـدوي
» محمود درويش مؤلفات ودواوين
3/20/2014, 9:56 pm من طرف wadfay
» حاتم الطائي
3/20/2014, 6:35 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» حكمة اليوم
3/2/2014, 6:03 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» امرؤ القيس
3/2/2014, 5:55 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» محتويات مكتبة الروايات
2/9/2014, 4:26 pm من طرف أريج الورد
» تقديم ديوان رصاصة فى قلب الجياد العجوزة محمود العياط
2/1/2014, 8:33 pm من طرف محمود العياط
» الحارث بن حلزة
1/21/2014, 7:36 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» مجموعة من الاغاني النادرة لكاظم الساهر تجدونها عند السراب فقط لا غير
1/19/2014, 10:02 am من طرف mas12ter
» رخصة زواج للمؤجل اداريا
1/8/2014, 9:17 am من طرف anas198510
» الف ليلة وليلة
1/8/2014, 2:01 am من طرف سعيد خليف
» عنترة العبسي
1/5/2014, 6:30 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» معجم المصطلحات النفسية انكليزي فرنسي عربي
11/24/2013, 1:33 pm من طرف محمد حمد