إدوارد سعيد
(1935-2003)
شاعر فنان لا يتجلي إلا خارج المكان
جنسيته الأميركية لم تمنع روحه الفلسطينية أن تظل حية
في كتابه الجميل حياتي في الشعر يؤكد أستاذ صلاح عبدالصبور ان صدق الانسان مع نفسه، هو الذي يعصمه من التفاهة والسطحية، وهما العدو اللدود للحياة وفي تقديري ان هذا الصدق مع النفس يتجلي، علي اجمل وجه، في نموذج المفكر الكبير الدكتور ادوارد سعيد، الذي رحل عن عالمنا يوم الخميس 25 سبتمبر 2003 في نيويورك البعيدة عن القدس التي كان قد وُلِدَ فيها يوم 1 نوفمبر سنة 1935.
لو أن ادوارد سعيد لم يكن صادقا مع نفسه، لكان قد اصبح واحدا من التافهين السطحيين الذين يكذبون علي أنفسهم قبل أن يكذبوا علي سواهم من الآخرين، وما أكثر هؤلاء الآخرين الذين يتلونون تلون الحرباء بسرعة البهلوان، ويتحولون في كل المناسبات الي ملكيين أكثر من الملك نفسه، حتي لو كانت هذه المناسبات متعارضة، بل متناقضة، حيث نري هؤلاء التافهين السطحيين، ممن يتصورون - زورا- أنهم من الكتاب والمفكرين يصبحون اميركيين اكثر من اي رئيس اميركي، بل ان منهم من يتحولون الي صهاينة إذا تلاقوا مع الصهاينة.
علي نقيض هؤلاء الذين تجمعهم التفاهة والسطحية وان اختلفت جوازات سفرهم التي يحملونها، ظل ادوارد سعيد- علي امتداد سنوات حياته -صادقا مع نفسه، وهذا ما ألزمه بأن يحمل القدس في قلبه، رغم بعده المكاني عنها، ورغم كل ما جري له من تحولات في طبيعة العمل او مناخ الأرض التي مارس فيها ما مارسه من عمل، كان والد ادوارد سعيد ممن يحملون الجنسية الاميركية، وكذلك كان هو، لكن جنسيته الاميركية لم تستطع ان تمنع روحه الفلسطينية من ان تظل متوهجة وفياضة بالحيوية.
الصدق مع النفس كان المنارة الهادية التي اهتدي بها ادوارد سعيد في رحلته الجادة والمضنية، سعيا للتغلغل في قلب الاشياء، وبحثا عن الجوهر المكنون، بعيدا عن المظاهر البراقة المبهرجة، وهكذا امتزج الصدق الفطري التلقائي مع العمق المكتسب من خلال الخبرات الانسانية بصورتيها المباشرة وغير المباشرة، ومع امتزاج الصدق والعمق تشكلت شخصية المفكر الجاد والمسؤول، الذي يعرف معني الفكر، ويعرف في نفس الوقت ان هذا الفكر يظل قاصرا اذا ارتضي ان يطل علي الحياة من خلال البرج العاجي، وهذا ما يميز ادوارد سعيد ومعه قلائل من الباحثين الاكاديميين عن سواهم الكثيرين ممن يغلقون نوافذ الشمس امام ارواحهم، قانعين بتخصصات دقيقة، مفيدة بالطبع، لكنها ليست كافية للتأثير في مجريات الحياة، ولو ان ادوارد سعيد قد ارتضي لنفسه ان يكون واحدا من هؤلاء الأكاديميين الكثيرين القانعين بتخصصاتهم، لما كان العالم بأسره قد عرفه، ولما كان لكلمته ان تحقق تأثيرها العميق في عقول وقلوب الكثيرين في الشرق وفي الغرب، ولدي الاصدقاء والاعداء علي حد سواء.
خارج المكان: مذكرات شخصية هو الكتاب الذي اصدره ادوارد سعيد، باللغة الانجليزية، سنة 1999 في نيويورك، ويمثل هذا الكتاب سيرة ذاتية غير مكتملة، حيث يفتش ادوارد سعيد عن طفولته في القدس، ويتأمل سنوات حياته في القاهرة، الي ان يتوقف عن البوح في منتصف الستينيات من القرن العشرين الغارب، بعد ان حصل علي الدكتوراه من جامعة هارفارد.
من المفارقات التي قد تدفع الي الضحك او الي البكاء ما يرويه ادوارد سعيد عن احتفاله بعيد ميلاده الثاني عشر في منزل العائلة في القدس سنة ،1947 فقد اخذ ابناء عمومته الاكبر عمرا منه يحدثونه عن شؤم تاريخ ميلاده، الذي يتطابق مع نفس يوم ذكري وعد بلفور المشؤوم حيث أعطي من لا يملك وعدا لمن يستحق .
ويعترف ادوارد سعيد -بكل تلقائية وشجاعة- انه لم يكن يحب اسمه ادوارد وهو الاسم الذي اختاره له والداه، وفي هذا السياق يقول: ان الشعور الطاغي الذي كان يتملكني دائما هو ان شيئا ما ينقصني ويدفع بي خارج المكان، وهكذا انقضت من عمري خمسون سنة قبل ان اعتاد علي اسم ادوارد .. ذلك الاسم الانجليزي السخيف الذي تم إقحامه عنوة علي اسم عائلتي العربي الواضح.. .
رحل ادوارد سعيد مع والديه واخوته الي القاهرة في ديسمبر ،1947 وتشرح مني أنيس ما جري بعد ذلك من خلال تلخيصها لبعض فصول خارج المكان . حيث تقول إن أفرادا من العائلة والعشرات من المعارف والاصدقاء لحقوا بأسرة ادوارد سعيد وتوجهوا الي القاهرة بعد شهور قليلة بعد أن أُجبروا علي ترك ديارهم في القدس وصفد وحيفا، وتحولوا بين عشية وضحاها الي لاجئين بلا بيت او وطن، وفي القلب من كل هؤلاء الأقارب والمعارف الذين وفدوا الي القاهرة عشية النكبة وفي اعقابها نجد العمة الثرية نبيهة شقيقة وديع سعيد -والد ادوارد، والتي أقام هو واولاده في منزلها الأنيق في القدس الغربية طيلة عام 1947.. .
وعن عمته يقول ادوارد سعيد في خارج المكان -نقلا عن ترجمة مني أنيس-.. ..لم تكن عمتي نبيهة لتسمح لأحد منا بنسيان بؤس القضية الفلسطينية، كان تأتي لتناول الغداء معنا كل يوم جمعة.. تحكي لنا بالتفصيل عن كل ما قامت به طيلة الأسبوع من زيارات لعائلات اللاجئين في شبرا، ومن تردد دائم علي المكاتب الحكومية المصرية، حيث تقوم بمطاردة المسؤولين عن اصدار تصاريح العمل والاقامة لهؤلاء اللاجئين، كما كانت تحكي لنا عن مساعيها المستمرة مع جميع المنظمات الخيرية، بحثا عن إعانات مالية للمحتاجين.. .
ما الذي دفع ادوارد سعيد وهو يكتب خارج المكان سنة 1999 ان يتذكر وقائع روتها له عمته سنة 1947 عن أناس لم يعد لهم وطن، بعد أن تحولوا إلي لاجئين؟.. انه الصدق مع النفس، الذي أبقي الانتماء لفلسطين حيا في قلبه، وفي تصوري ان حكايات عمته نبيهة سنة 1947 هي التي دفعته -عاطفيا وعقليا- لأن يهاجم اتفاقيات أوسلو هجوما عنيفا وحادا، لأن تلك الاتفاقيات لم تشر من قريب او بعيد الي مشكلة اللاجئين، ومن المعروف أن ادوارد سعيد أخذ يطالب سنة 1994 باستقالة الرئيس الفلسطيني -الرمز ياسر عرفات، بل انه وصفه بأنه بيتان الاسرائيليين في اشارة الي الماريشال الفرنسي هنري بيتان الذي تعاون مع ألمانيا النازية بقيادة ادولف هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، رغم أن المانيا كانت تحتل وقتها وطنه فرنسا. ومن نيويورك الاميركية انطلقت صيحة ادوارد سعيد، لتؤكد ان اتفاقيات اوسلو بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية هي اداة استسلام للعرب امام الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الاميركية.
من قلب نيويورك الاميركية، انطلقت صيحة ادوارد سعيد ضد اتفاقيات اوسلو، وبدلا من ان تواجه القيادة الفلسطينية تلك الصيحة الصادرة من قلب انسان لا يستطيع احد ان يشك او يشكك في صدقه ونبله، صدرت عن القيادة الفلسطينية زوابع من الانفعالات المتشنجة، كان اعجبها واغربها قرار مصادرة كتب ادوارد سعيد من الضفة الغربية وقطاع غزة، وهكذا لم يعد المفكر الفلسطيني -العالمي الكبير ادوارد سعيد يواجه الصهاينة وحدهم بثاقب فكره وعمق تحليله، وانما أصبح ايضا يواجه عقليات بعض الساسة الفلسطينيين الذين توهموا - وقتها- أن الطريق إلي الجنة يمر بأوسلو، وان من يهاجم اتفاقياتها لابد ان يكون من الشياطين لا من المفكرين،
من المفارقات التي تدعو كذلك للضحك أو للبكاء علي حد سواء أن الرئيس الفلسطيني- الرمز ياسر عرفات قد حصل علي جائزة نوبل للسلام، مناصفة مع الإرهابي الصهيوني مناحم بيجين، بعد أن جري ماجري في أوسلو، وهاهو الآن الإرهابي الصهيوني أرييل شارون يقرر طرد ياسر عرفات، بعد ان اتهمه هو وسواه من الصهاينة بأنه إرهابي، واعتقد الآن أن الكرة في ملعب هيئة جائزة نوبل، لنعرف رأيها فيما اذا كان ياسر عرفات جديرا بأن يحصل علي جائزة نوبل للسلام، أم انه من الضروري سحب تلك الجائزة منه، طالما أنه إرهابي!
بعيدا عن تقلبات السياسة، فإني اعترف باني قد تأثرت اعمق التأثر بما قاله الرئيس الفلسطيني- الرمز ياسر عرفات، عقب تلقيه نبأ رحيل المفكر الفلسطيني العالمي ادوارد سعيد، حيث قال: .. لقد خسرت الانسانية برحيله عبقرية بارزة، كان لها إسهام غني وواسع في جميع مجالات الثقافة والفكر والابداع، واحتل موقعا مرموقا كمدافع عن حقوق الانسان وعن القيم الانسانية الرفيعة وكل ماهو مستنير وحر في تاريخ الفكر الانساني.. .
هل ابتعدت عن السياسة؟.. بالطبع لا.. فالسياسة تتدخل وتتغلغل حتي في تفاصيل حياتنا اليومية وجزئياتها، وحتي كتب ادوارد سعيد ودراساته الاكاديمية، فإنها تعكس الرؤية السياسية لصاحبها المفكر الكبير، وهو يواجه مايواجهه، خائضا خضم التاريخ وجغرافيا الأماكن القريبة والبعيدة، وباحثا عن جوهر الانسان.
للمفكر الفلسطيني العالمي الكبير دراسات عديدة، كلها مهمة، لكن اشهرها هو كتاب الاستشراق الذي كتبه بالانجليزية وترجم الي ست وعشرين لغة، من بينها لغتنا العربية وله تعقيبات علي الاستشراق الذي ترجمه وقدم له صبحي حديدي، وله الثقافة والامبريالية الذي ترجمه وقدم له كمال أبو ديب، وهناك كتاب، اعتقد انه ملفق أو مختلق، بعنوان الواقع الفلسطيني - الماضي والحاضر والمستقبل وهو كتاب صغير، ومع هذا فان دار النشر التي اصدرته تقول -علي الغلاف- انه من تأليف: ادوارد سعيد وابراهيم أبو لغد وجانيت أبو لغد ومحمد حلاج وايليارزيق، ويقع هذا الكتاب في (117) صفحة من القطع الصغير، ولايستطيع فارئه ان يميز بين ماكتبه الذين قالت دار النشر انهم قد كتبوه، كما لايستطيع ان يعرف ما اذا كان الذين كتبوه قد اتفقوا فيما بينهم علي جهد جماعي، ام ان الأمر كله مخترع من جانب دار النشر؟!.
علينا ان ننسي هذا الكتاب الملفق أو المختلق، لكي اشير الي كتاب علي جانب عظيم من الاهمية، وصاحبه شاعر بالفعل، وله عدة دواوين، وهو الكاتب الرائع خيري منصور، اما الكتاب ذاته فهو بعنوان الاستشراق والوعي السالب .
يتناول الفصل الثاني من كتاب خيري منصور مقارنة مضنية وجادة بين كتاب آراء غربية في مسائل شرقية لعمر فاخوري وكتاب الاستشراق لادوارد سعيد، وقد صدر الكتاب الأول قبل ستين سنة من صدور الكتاب الثاني، ويري خيري منصور ان القاريء لهذين الكتابين .. لايعدم فرصة القبض علي أكثر من قاسم مشترك بينهما، بالرغم من البون بينهما منهجيا ومعرفيا. فاخوري سنة 1925 كان يقف علي الجانب الاخر من جنة طه حسين مثلا، وكان يقرأ جهود الاستشراق علي انها تأويلات قبل اي شيء آخر، لأن جهلهم بالحقيقة حال دون شفائهم من داء الاحكام السابقة.. وينطلق خيري منصور ليقول ان عمر فاخوري كان علي وعي مبكر بمسألة اعادة خلق الآخر علي غرار الأنا .. وهذا ماسيقوله ادوارد سعيد بعد ستين سنة ولكن بشكل آخر.
من الصعب بالطبع تناول أفكار ادوارد سعيد حول الاستشراق، ولاحتي عرض المقارنة التي اوضحها خيري منصور بينه وبين عمر فاخوري، فهذا أمر يتطلب جهدا كبيرا، لاتتحمله طبيعة الكتابة المتعجلة عن رحيل مفكر كبير، ولهذا فإني- في الخاتمة- أعود إلي خارج المكان حيث نتعرف علي عوالم المفكر الفلسطيني العالمي الكبير، منذ عالم الطفولة، الي عالم ضياع وطن بأسره، وعالم التغلغل في جوهر الأشياء، وان كان هذا التغلغل خارج المكان وربما ايضا بسببه. ان القدس عند ادوارد سعيد رمز لاغتراب الروح عن المكان الذي احبته، وتأتي القاهرة عنده لتكون دواء القلب المجروح بفعل الاغتراب، اما نيويورك فانه يظل فيها دون ان يكون فيها.. فهو مغترب فيها، لكنه مقيم علي أرضها، وهناك واقعة شخصية يرويها ادوارد سعيد، تتعلق بحرمانه من زيارة القاهرة علي امتداد خمس عشرة سنة، وهذا ماجعله في خارج المكان يقول بالحرف الواحد .. لقد حرمت 15 سنة من زيارة المدينة الوحيدة في العالم، التي كنت احس بشكل أو بآخر بعدم الغربة فيها.. .
لم تمنع الجنسية الأميركية التي يحملها ادوارد سعيد روحه الفلسطينية من ان تظل حية، و الحق ان ادوارد سعيد المفكر لايتجلي شاعرا الا خارج المكان واذا كان ادوارد سعيد المفكر- الشاعر- الانسان قد غاب، فإن قبس فكره وعذوبة شعره وصدق انسانيته كلها لم تغب.. ولن تغيب
(1935-2003)
شاعر فنان لا يتجلي إلا خارج المكان
جنسيته الأميركية لم تمنع روحه الفلسطينية أن تظل حية
في كتابه الجميل حياتي في الشعر يؤكد أستاذ صلاح عبدالصبور ان صدق الانسان مع نفسه، هو الذي يعصمه من التفاهة والسطحية، وهما العدو اللدود للحياة وفي تقديري ان هذا الصدق مع النفس يتجلي، علي اجمل وجه، في نموذج المفكر الكبير الدكتور ادوارد سعيد، الذي رحل عن عالمنا يوم الخميس 25 سبتمبر 2003 في نيويورك البعيدة عن القدس التي كان قد وُلِدَ فيها يوم 1 نوفمبر سنة 1935.
لو أن ادوارد سعيد لم يكن صادقا مع نفسه، لكان قد اصبح واحدا من التافهين السطحيين الذين يكذبون علي أنفسهم قبل أن يكذبوا علي سواهم من الآخرين، وما أكثر هؤلاء الآخرين الذين يتلونون تلون الحرباء بسرعة البهلوان، ويتحولون في كل المناسبات الي ملكيين أكثر من الملك نفسه، حتي لو كانت هذه المناسبات متعارضة، بل متناقضة، حيث نري هؤلاء التافهين السطحيين، ممن يتصورون - زورا- أنهم من الكتاب والمفكرين يصبحون اميركيين اكثر من اي رئيس اميركي، بل ان منهم من يتحولون الي صهاينة إذا تلاقوا مع الصهاينة.
علي نقيض هؤلاء الذين تجمعهم التفاهة والسطحية وان اختلفت جوازات سفرهم التي يحملونها، ظل ادوارد سعيد- علي امتداد سنوات حياته -صادقا مع نفسه، وهذا ما ألزمه بأن يحمل القدس في قلبه، رغم بعده المكاني عنها، ورغم كل ما جري له من تحولات في طبيعة العمل او مناخ الأرض التي مارس فيها ما مارسه من عمل، كان والد ادوارد سعيد ممن يحملون الجنسية الاميركية، وكذلك كان هو، لكن جنسيته الاميركية لم تستطع ان تمنع روحه الفلسطينية من ان تظل متوهجة وفياضة بالحيوية.
الصدق مع النفس كان المنارة الهادية التي اهتدي بها ادوارد سعيد في رحلته الجادة والمضنية، سعيا للتغلغل في قلب الاشياء، وبحثا عن الجوهر المكنون، بعيدا عن المظاهر البراقة المبهرجة، وهكذا امتزج الصدق الفطري التلقائي مع العمق المكتسب من خلال الخبرات الانسانية بصورتيها المباشرة وغير المباشرة، ومع امتزاج الصدق والعمق تشكلت شخصية المفكر الجاد والمسؤول، الذي يعرف معني الفكر، ويعرف في نفس الوقت ان هذا الفكر يظل قاصرا اذا ارتضي ان يطل علي الحياة من خلال البرج العاجي، وهذا ما يميز ادوارد سعيد ومعه قلائل من الباحثين الاكاديميين عن سواهم الكثيرين ممن يغلقون نوافذ الشمس امام ارواحهم، قانعين بتخصصات دقيقة، مفيدة بالطبع، لكنها ليست كافية للتأثير في مجريات الحياة، ولو ان ادوارد سعيد قد ارتضي لنفسه ان يكون واحدا من هؤلاء الأكاديميين الكثيرين القانعين بتخصصاتهم، لما كان العالم بأسره قد عرفه، ولما كان لكلمته ان تحقق تأثيرها العميق في عقول وقلوب الكثيرين في الشرق وفي الغرب، ولدي الاصدقاء والاعداء علي حد سواء.
خارج المكان: مذكرات شخصية هو الكتاب الذي اصدره ادوارد سعيد، باللغة الانجليزية، سنة 1999 في نيويورك، ويمثل هذا الكتاب سيرة ذاتية غير مكتملة، حيث يفتش ادوارد سعيد عن طفولته في القدس، ويتأمل سنوات حياته في القاهرة، الي ان يتوقف عن البوح في منتصف الستينيات من القرن العشرين الغارب، بعد ان حصل علي الدكتوراه من جامعة هارفارد.
من المفارقات التي قد تدفع الي الضحك او الي البكاء ما يرويه ادوارد سعيد عن احتفاله بعيد ميلاده الثاني عشر في منزل العائلة في القدس سنة ،1947 فقد اخذ ابناء عمومته الاكبر عمرا منه يحدثونه عن شؤم تاريخ ميلاده، الذي يتطابق مع نفس يوم ذكري وعد بلفور المشؤوم حيث أعطي من لا يملك وعدا لمن يستحق .
ويعترف ادوارد سعيد -بكل تلقائية وشجاعة- انه لم يكن يحب اسمه ادوارد وهو الاسم الذي اختاره له والداه، وفي هذا السياق يقول: ان الشعور الطاغي الذي كان يتملكني دائما هو ان شيئا ما ينقصني ويدفع بي خارج المكان، وهكذا انقضت من عمري خمسون سنة قبل ان اعتاد علي اسم ادوارد .. ذلك الاسم الانجليزي السخيف الذي تم إقحامه عنوة علي اسم عائلتي العربي الواضح.. .
رحل ادوارد سعيد مع والديه واخوته الي القاهرة في ديسمبر ،1947 وتشرح مني أنيس ما جري بعد ذلك من خلال تلخيصها لبعض فصول خارج المكان . حيث تقول إن أفرادا من العائلة والعشرات من المعارف والاصدقاء لحقوا بأسرة ادوارد سعيد وتوجهوا الي القاهرة بعد شهور قليلة بعد أن أُجبروا علي ترك ديارهم في القدس وصفد وحيفا، وتحولوا بين عشية وضحاها الي لاجئين بلا بيت او وطن، وفي القلب من كل هؤلاء الأقارب والمعارف الذين وفدوا الي القاهرة عشية النكبة وفي اعقابها نجد العمة الثرية نبيهة شقيقة وديع سعيد -والد ادوارد، والتي أقام هو واولاده في منزلها الأنيق في القدس الغربية طيلة عام 1947.. .
وعن عمته يقول ادوارد سعيد في خارج المكان -نقلا عن ترجمة مني أنيس-.. ..لم تكن عمتي نبيهة لتسمح لأحد منا بنسيان بؤس القضية الفلسطينية، كان تأتي لتناول الغداء معنا كل يوم جمعة.. تحكي لنا بالتفصيل عن كل ما قامت به طيلة الأسبوع من زيارات لعائلات اللاجئين في شبرا، ومن تردد دائم علي المكاتب الحكومية المصرية، حيث تقوم بمطاردة المسؤولين عن اصدار تصاريح العمل والاقامة لهؤلاء اللاجئين، كما كانت تحكي لنا عن مساعيها المستمرة مع جميع المنظمات الخيرية، بحثا عن إعانات مالية للمحتاجين.. .
ما الذي دفع ادوارد سعيد وهو يكتب خارج المكان سنة 1999 ان يتذكر وقائع روتها له عمته سنة 1947 عن أناس لم يعد لهم وطن، بعد أن تحولوا إلي لاجئين؟.. انه الصدق مع النفس، الذي أبقي الانتماء لفلسطين حيا في قلبه، وفي تصوري ان حكايات عمته نبيهة سنة 1947 هي التي دفعته -عاطفيا وعقليا- لأن يهاجم اتفاقيات أوسلو هجوما عنيفا وحادا، لأن تلك الاتفاقيات لم تشر من قريب او بعيد الي مشكلة اللاجئين، ومن المعروف أن ادوارد سعيد أخذ يطالب سنة 1994 باستقالة الرئيس الفلسطيني -الرمز ياسر عرفات، بل انه وصفه بأنه بيتان الاسرائيليين في اشارة الي الماريشال الفرنسي هنري بيتان الذي تعاون مع ألمانيا النازية بقيادة ادولف هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، رغم أن المانيا كانت تحتل وقتها وطنه فرنسا. ومن نيويورك الاميركية انطلقت صيحة ادوارد سعيد، لتؤكد ان اتفاقيات اوسلو بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية هي اداة استسلام للعرب امام الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الاميركية.
من قلب نيويورك الاميركية، انطلقت صيحة ادوارد سعيد ضد اتفاقيات اوسلو، وبدلا من ان تواجه القيادة الفلسطينية تلك الصيحة الصادرة من قلب انسان لا يستطيع احد ان يشك او يشكك في صدقه ونبله، صدرت عن القيادة الفلسطينية زوابع من الانفعالات المتشنجة، كان اعجبها واغربها قرار مصادرة كتب ادوارد سعيد من الضفة الغربية وقطاع غزة، وهكذا لم يعد المفكر الفلسطيني -العالمي الكبير ادوارد سعيد يواجه الصهاينة وحدهم بثاقب فكره وعمق تحليله، وانما أصبح ايضا يواجه عقليات بعض الساسة الفلسطينيين الذين توهموا - وقتها- أن الطريق إلي الجنة يمر بأوسلو، وان من يهاجم اتفاقياتها لابد ان يكون من الشياطين لا من المفكرين،
من المفارقات التي تدعو كذلك للضحك أو للبكاء علي حد سواء أن الرئيس الفلسطيني- الرمز ياسر عرفات قد حصل علي جائزة نوبل للسلام، مناصفة مع الإرهابي الصهيوني مناحم بيجين، بعد أن جري ماجري في أوسلو، وهاهو الآن الإرهابي الصهيوني أرييل شارون يقرر طرد ياسر عرفات، بعد ان اتهمه هو وسواه من الصهاينة بأنه إرهابي، واعتقد الآن أن الكرة في ملعب هيئة جائزة نوبل، لنعرف رأيها فيما اذا كان ياسر عرفات جديرا بأن يحصل علي جائزة نوبل للسلام، أم انه من الضروري سحب تلك الجائزة منه، طالما أنه إرهابي!
بعيدا عن تقلبات السياسة، فإني اعترف باني قد تأثرت اعمق التأثر بما قاله الرئيس الفلسطيني- الرمز ياسر عرفات، عقب تلقيه نبأ رحيل المفكر الفلسطيني العالمي ادوارد سعيد، حيث قال: .. لقد خسرت الانسانية برحيله عبقرية بارزة، كان لها إسهام غني وواسع في جميع مجالات الثقافة والفكر والابداع، واحتل موقعا مرموقا كمدافع عن حقوق الانسان وعن القيم الانسانية الرفيعة وكل ماهو مستنير وحر في تاريخ الفكر الانساني.. .
هل ابتعدت عن السياسة؟.. بالطبع لا.. فالسياسة تتدخل وتتغلغل حتي في تفاصيل حياتنا اليومية وجزئياتها، وحتي كتب ادوارد سعيد ودراساته الاكاديمية، فإنها تعكس الرؤية السياسية لصاحبها المفكر الكبير، وهو يواجه مايواجهه، خائضا خضم التاريخ وجغرافيا الأماكن القريبة والبعيدة، وباحثا عن جوهر الانسان.
للمفكر الفلسطيني العالمي الكبير دراسات عديدة، كلها مهمة، لكن اشهرها هو كتاب الاستشراق الذي كتبه بالانجليزية وترجم الي ست وعشرين لغة، من بينها لغتنا العربية وله تعقيبات علي الاستشراق الذي ترجمه وقدم له صبحي حديدي، وله الثقافة والامبريالية الذي ترجمه وقدم له كمال أبو ديب، وهناك كتاب، اعتقد انه ملفق أو مختلق، بعنوان الواقع الفلسطيني - الماضي والحاضر والمستقبل وهو كتاب صغير، ومع هذا فان دار النشر التي اصدرته تقول -علي الغلاف- انه من تأليف: ادوارد سعيد وابراهيم أبو لغد وجانيت أبو لغد ومحمد حلاج وايليارزيق، ويقع هذا الكتاب في (117) صفحة من القطع الصغير، ولايستطيع فارئه ان يميز بين ماكتبه الذين قالت دار النشر انهم قد كتبوه، كما لايستطيع ان يعرف ما اذا كان الذين كتبوه قد اتفقوا فيما بينهم علي جهد جماعي، ام ان الأمر كله مخترع من جانب دار النشر؟!.
علينا ان ننسي هذا الكتاب الملفق أو المختلق، لكي اشير الي كتاب علي جانب عظيم من الاهمية، وصاحبه شاعر بالفعل، وله عدة دواوين، وهو الكاتب الرائع خيري منصور، اما الكتاب ذاته فهو بعنوان الاستشراق والوعي السالب .
يتناول الفصل الثاني من كتاب خيري منصور مقارنة مضنية وجادة بين كتاب آراء غربية في مسائل شرقية لعمر فاخوري وكتاب الاستشراق لادوارد سعيد، وقد صدر الكتاب الأول قبل ستين سنة من صدور الكتاب الثاني، ويري خيري منصور ان القاريء لهذين الكتابين .. لايعدم فرصة القبض علي أكثر من قاسم مشترك بينهما، بالرغم من البون بينهما منهجيا ومعرفيا. فاخوري سنة 1925 كان يقف علي الجانب الاخر من جنة طه حسين مثلا، وكان يقرأ جهود الاستشراق علي انها تأويلات قبل اي شيء آخر، لأن جهلهم بالحقيقة حال دون شفائهم من داء الاحكام السابقة.. وينطلق خيري منصور ليقول ان عمر فاخوري كان علي وعي مبكر بمسألة اعادة خلق الآخر علي غرار الأنا .. وهذا ماسيقوله ادوارد سعيد بعد ستين سنة ولكن بشكل آخر.
من الصعب بالطبع تناول أفكار ادوارد سعيد حول الاستشراق، ولاحتي عرض المقارنة التي اوضحها خيري منصور بينه وبين عمر فاخوري، فهذا أمر يتطلب جهدا كبيرا، لاتتحمله طبيعة الكتابة المتعجلة عن رحيل مفكر كبير، ولهذا فإني- في الخاتمة- أعود إلي خارج المكان حيث نتعرف علي عوالم المفكر الفلسطيني العالمي الكبير، منذ عالم الطفولة، الي عالم ضياع وطن بأسره، وعالم التغلغل في جوهر الأشياء، وان كان هذا التغلغل خارج المكان وربما ايضا بسببه. ان القدس عند ادوارد سعيد رمز لاغتراب الروح عن المكان الذي احبته، وتأتي القاهرة عنده لتكون دواء القلب المجروح بفعل الاغتراب، اما نيويورك فانه يظل فيها دون ان يكون فيها.. فهو مغترب فيها، لكنه مقيم علي أرضها، وهناك واقعة شخصية يرويها ادوارد سعيد، تتعلق بحرمانه من زيارة القاهرة علي امتداد خمس عشرة سنة، وهذا ماجعله في خارج المكان يقول بالحرف الواحد .. لقد حرمت 15 سنة من زيارة المدينة الوحيدة في العالم، التي كنت احس بشكل أو بآخر بعدم الغربة فيها.. .
لم تمنع الجنسية الأميركية التي يحملها ادوارد سعيد روحه الفلسطينية من ان تظل حية، و الحق ان ادوارد سعيد المفكر لايتجلي شاعرا الا خارج المكان واذا كان ادوارد سعيد المفكر- الشاعر- الانسان قد غاب، فإن قبس فكره وعذوبة شعره وصدق انسانيته كلها لم تغب.. ولن تغيب
6/8/2023, 9:34 pm من طرف روان علي شريف
» أنا بهذه اللحظة
10/28/2021, 8:01 am من طرف جاك
» على الرصيف
6/13/2020, 5:40 pm من طرف روان علي شريف
» بوابة الجحيم
6/13/2020, 4:58 pm من طرف روان علي شريف
» الكاتب علي شريف روان في حوار لـ"الديوان"
6/28/2019, 5:05 pm من طرف روان علي شريف
» فردوس مليندا المفقود.
3/12/2019, 1:20 am من طرف روان علي شريف
» بدري فركوح
3/4/2019, 11:56 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» ليلى العفيفة
3/4/2019, 11:52 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» مجموعة مؤلفات محمد حسنين هيكل
1/27/2019, 3:42 pm من طرف نبيل اوزاعي
» ألفية العياط فى النحو
11/9/2018, 3:13 am من طرف محمود العياط
» ديوان إنشق القمر
8/14/2018, 2:05 am من طرف محمود العياط
» ديوان بومبا والاقزام
2/25/2018, 3:39 am من طرف محمود العياط
» بريد الموتى
1/23/2018, 2:35 am من طرف روان علي شريف
» ديوان دحش قرم ودانك
12/21/2017, 4:33 am من طرف محمود العياط
» ديوان حادى يابادى يا كرنب زبادى
10/14/2017, 6:21 am من طرف محمود العياط
» من عجائب الأرقام
5/24/2017, 9:36 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» ابن الرومي
5/24/2017, 9:20 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» قصيدة حبك وقلبى
8/13/2016, 11:05 pm من طرف محمود العياط
» الأعشى الأكبر
6/11/2016, 4:17 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» مساء الخير
5/2/2015, 8:40 am من طرف السراب
» مي زيادة
4/22/2015, 11:17 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» لبيد بن ربيعة
12/28/2014, 4:44 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» زهير بن أبي سلمى
12/20/2014, 4:32 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» جبران خليل جبران
12/5/2014, 2:16 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» إيايا أبو ماضي
11/5/2014, 2:09 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» حمل برنامح تعلم اللغة الانجليزيه على جهازك المحمول
9/11/2014, 10:04 pm من طرف poopy87
» أوبريت ملحمة تحتمس الرابع ولوحة الاحلام
7/28/2014, 9:41 am من طرف محمود العياط
» سيف الفراق
7/22/2014, 2:59 am من طرف محمود العياط
» ديوان اعشقك جدا
7/22/2014, 2:56 am من طرف محمود العياط
» ديوان الحديث مع النفس البشرية
7/22/2014, 2:54 am من طرف محمود العياط
» عمرو بن كلثوم
6/14/2014, 6:02 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» طرفة بن العبد
5/28/2014, 5:26 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» ديوان رصاصة فى قلب الجياد العجوزة
5/20/2014, 10:40 pm من طرف محمود العياط
» شهداء 6 أيار 1916
5/6/2014, 5:45 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» الياس قنصل
4/23/2014, 4:20 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» زكي قنصل
4/23/2014, 4:18 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» فضائية الجزيرة إحدى أسلحة قطر
4/3/2014, 6:05 pm من طرف طالب علي
» إضافة رائعة للفايرفوكس ( ميزة AutoPager ) تجعل كل المواضيع في صفحة واحدة
4/2/2014, 4:47 pm من طرف العـدوي
» محمود درويش مؤلفات ودواوين
3/20/2014, 9:56 pm من طرف wadfay
» حاتم الطائي
3/20/2014, 6:35 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» حكمة اليوم
3/2/2014, 6:03 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» امرؤ القيس
3/2/2014, 5:55 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» محتويات مكتبة الروايات
2/9/2014, 4:26 pm من طرف أريج الورد
» تقديم ديوان رصاصة فى قلب الجياد العجوزة محمود العياط
2/1/2014, 8:33 pm من طرف محمود العياط
» الحارث بن حلزة
1/21/2014, 7:36 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» مجموعة من الاغاني النادرة لكاظم الساهر تجدونها عند السراب فقط لا غير
1/19/2014, 10:02 am من طرف mas12ter
» رخصة زواج للمؤجل اداريا
1/8/2014, 9:17 am من طرف anas198510
» الف ليلة وليلة
1/8/2014, 2:01 am من طرف سعيد خليف
» عنترة العبسي
1/5/2014, 6:30 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» معجم المصطلحات النفسية انكليزي فرنسي عربي
11/24/2013, 1:33 pm من طرف محمد حمد