خرج إلى السوق في جولةٍ تفتيشية فرأى إبلاً سمينةً تمتاز عن بقية الإبل بنموِّها وامتلائها ، يسأل عمر بن الخطاب : (( إبل مَن هذه ؟ فقالوا : هي أبل عبد الله بن عمر ابنك ، وانتفض أمير المؤمنين ، وكأن القيامة قد قامت ، وقال : عبد الله بن عمر !! بخٍ بخٍ يا ابن أمير المؤمنين " (أي الله يعينك ) ، وأرسل في طلبه فوراً ، وأقبل عبد الله يسعى ، وحين وقف بين يدي والده أخذ عمر يفتل سبلة شاربه ، وتلك عادته إذا أهمَّه أمرٌ خطير ، فأحياناً الإنسان يحكُّ رأسه ، أو يحرِّك ثيابه ، كل إنسان له طريقة إذا أمر خطير وهو يفكِّر ، فقال : " بخٍ بخٍ يا ابن أمير المؤمنين ، ما هذه الإبل يا عبد الله ؟ " فأجاب : " إنها إبلٌ أمضاء ( يعني هزيلة ) اشتريتها بمالي ، وبعثت بها إلى الحِمى ( أي إلى المرعى ) أُتاجر فيها ، وأبتغي ما يبتغي المسلمون ، فماذا صنعت ؟ وأيّ ذنبٍ ارتكبته ، وأية خطيئةٌ وقعت فيها ؟ اشتريت إبلاً أمضاء يعني هزيلة ، اشتريتها بمالي ، وماله حلال ، وبعث بها إلى الحمى ، أي إلى المرعى لتسمن حتى يبيعها فيبتغي ما يبتغي المسلمون ، فقال عمر متهكماً تهكُماً لاذعاً : " ويقول الناس حين يرونها : ارعَوْا إبل ابن أمير المؤمنين ، اسقُوا إبل ابن أمير المؤمنين ، وتسمن إبل ابن أمير المؤمنين ، فبع هذه الإبل ، وخذ رأس مالك منها ، واجعل الربح في بيت مال المسلمين)) .
هذا إدراك نادر أن هذا ابن أمير المؤمنين ، فلعلَّ الناس أعطوه فوق ما يستحق ، ولعلهم أكرموه ، فقال : بع هذه الإبل ، وخذ رأس مالك ، وردَّ الباقي لبيت مال المسلمين ، أرأيتم هذه النزاهة .
مرةً وصل إلى المدينة مالٌ كثير من أموال الأقاليم ، فتذهب إليه ابنته حفصة رضي الله عنها لتأخذ نصيبها ، وتقول له مداعبةً : " يا أمير المؤمنين حقٌّ أقاربك في هذا المال ، فقد أوصى الله بالأقربين " فيجيبها جاداً : " يا بُنيَّتي حقُّ أقربائي في مالي ، أما هذا فمال المسلمين ، قومي إلى بيتك ، أي اذهبي ، حق أقربائي في مالي ، أما هذا فمال المسلمين ، قومي إلى بيتك ، طبعاً مَن علَّمه ذلك ؟
إنّه النبي عليه الصلاة والسلام ، حينما قال لأحبِّ الناس إليه فاطمة البتول: " لا يا فاطمة إن في المسلمين من هم أحوج منك لهذا المال ، والله لا أؤثرك على فقراء المسلمين " .
مرةً أراد هذا الخليفة العظيم أن يسجِّل في ديوانٍ أسماءَ أصحابه حتى يعطيهم من فيء المسلمين بحسب أقدارهم ، وسبقهم في الإسلام ، والأسماء سُجِّلت ، بدأ عمر بن الخطاب ببني هاشم ، ثم بآل أبي بكر ، ثم بني عَدي آل عُمر ، فلما طالع أمير المؤمنين الكتاب ردَّه إليه وأمرهم أن يقدِّموا على آل عُمر كثيرين غيرهم اقترح أسماءهم ، وذكر أُسرهم وقال : " ضعوا عمر وقومه في هذا الموضع "
فقد رُتِّبت الأسماء ترتيباً بحسب السبق في الإسلام ، وبحسب قُرب الصحابي من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، هكذا أمر ، فجاءت القائمة كالآتي : بنو هاشم أهل بيت النبي ، آل أبي بكر ، آل عمر ، فنقل اسمه ، واسم أهله إلى مكانٍ بعيدٍ جداً ، فلما ذهبوا إليه أهله بني عدي راجين أن تظلَّ أسماؤهم في مقدمة الديوان كي ينالوا أنصباءَهم والمال الأوفر قالوا له : " ألسنا أهل أمير المؤمنين ؟"، نحن أهلك ، وأنت أمير المؤمنين ، فأجابهم عمر: " بخٍ بخٍ ، أردتم الأكل على ظهري ، وأن أهب حسناتي لكم ، لا والله لتأخُذُنَّ مكانكم ، ولو جئتم آخر الناس" ، لكم مكان لا يتقدَّم ، ولا يتأخَّر ، ولو كنتم أهلي وأقربائي .
وقال هذا الخليفة حينما اقترح عليه أحدهم أن يجعل ابنه في عمل، قال : " من استعمل رجلاً لمودّةٍ أو قرابةٍ لا يحمله على استعماله إلا ذلك فقد خان الله ورسوله والمؤمنين "، يعني على مستوى صف ، لو عيَّنت عرّيفًا على هؤلاء الطلاَّب يلوذ بك ، وفي الصف من هو أكفأ منه فقد خُنت الأمانة .
ألم يقل مرةً لأحد الولاة : " ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارقٍ أو ناهب ؟ " قال : " أقطع يده" قال : " إذاً فإن جاءني من رعيَّتك من هو جائعٌ أو عاطل فسأقطع يدك ، فإن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسُدَّ جوْعتهم ، ونستر عورتهم ، ونوفِّر لهم حرفتهم ، فإن وفينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خُلِقت لتعمل ، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فأشْغِلْها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية " .
مرةً قال له بعض أصحابه : " إن الناس هابوا شدتك " ، أي أنهم خائفون منك ، فقال هذا الخليفة : " بلغني أن الناس هابوا شدَّتي ، وخافوا غِلظتي ، وقالوا : قد كان عمر يشتدُّ ورسول الله بين أظهرنا ( أي كان يخفف من شدته ) ، ثم اشتدَّ علينا وأبو بكرٍ والينا دونه ، فكيف وقد صارت الأمور إليه ؟ " والله الآن أصبحت مشكلة .. كان يشتد والنبي الكريم يخفف ، وكان يشتد وسيدنا الصديق يخفف .. فقال : " ألا من قال هذا فقد صدق ، فإني كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم عونه وخادمه ، وكان عليه السلام من لا يبلغ أحدٌ صفته من اللين والرحمة ، وكان كما قال الله تعالى :بالمؤمنين رؤوف رحيم
فكنت بين يديه سيفاً مسلولاً حتى يُغمدني ..
ألم يقل لسيدنا الصديق : " أنت أفضل مني " فقال سيدنا الصديق لعمر : " أنت أقوى مني " فقال : " قوتي لك مع فضلك " ، فكان سيفاً مسلولاً بين يدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، فإما أن يدعه يمضي ، وإما أن يغمده والأمر راجعٌ للنبي اللهم صلي عليه ..
فلم أزل مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على ذلك حتى توفَّاه الله وهو عني راضي ، والحمد لله على ذلك كثيراً وأنا به أسعد " . كنت بيد رسول الله قوة إما أن يستخدمني وإما ألا يستخدمني ، كنت سيفاً إما أن يدعني أمضي ، وإما أن يغمدني ، هو كان رحيم ، وأنا شديد.
قال : " ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر ، فكان من لا تنكِرون دعته وكرمه ولينه ، فكنت خادمه وعونه ، أخْلِطُ شدتي بلينه فأكون سيفاً مسلولاً حتى يُغمدني ، أو يدعني فأمضي ، فلم أزل معه كذلك حتى قبضه الله عزَّ وجل ، وهو عني راضٍ ، والحمد لله على ذلك كثيراً ، وأنا به أسعد " ، كلام واضح جداً .
قال : " ثم إني ولّيت أموركم أيها الناس " الآن الأمر كله لي ، فقد كنت شديد وكان من يخفف من شدتي " فاعلموا أن تلك الشدَّة قد أُضعِفَت " كالأب تماماً إذا ماتت الأم يأخذ دور الأب والأم ، الشدة تضعُف ، فعند وجود الأم إذا اشتدَّ الأب فالأم تخفف من شدته ، أما إذا ماتت الأم إن هذه الشدة قد أُضعِفت .
فقال : " ثم إني قد ولّيت أموركم أيها الناس فاعلموا إن تلك الشدة قد أضعفت ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي ، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدعُ أحداً يظلم أحداً أو يعتدي عليه حتى أضع خدَّه على الأرض ، حتى يُذعن للحق ، وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف " .
أرأيتم أيها الإخوة ، هو للمؤمنين رؤوفٌ رحيم ، لينٌ مطواع ، يضع خده على الأرض ، أما أهل الظلم والتعدي فهو شديدٌ عليهم وهذه الشدة أشار القرآن إليها قال : ( ولاتأخذكم بهما رأفة في دين الله ) ( سورة النور آية 2 )
الرأفة في غير موضعها مؤذية جداً ، إنسان قتل يجب أن يُقتل ، لقوله تعالى :( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون )( سورة البقرة )
إنسان زنا يجب أن يُرجم إن كان محصناً ، أو أن يُجلد إن كان غير محصن :( ولاتأخذكم بهما رأفة في دين الله )
أما ولي الأمور إذا بلغه انتهاكٌ لحرمةٍ قال عليه الصلاة والسلام :" لا عفا الله عنه إن عفا ".
العفو عن إنسان مجرم معتدٍ مفسد في الأرض ، هذا العفو ليس خُلُقاً نبيلاً إنما هو ضعفٌ ، وإنما هو توسيعٌ للفساد بين الناس .
قال : " أيها الناس .. لكم عليَّ خصالٌ أذكرها لكم خُذوني بها ؛ لكم عليَّ أن لا أجتبي شيئاً من خراجكم ، وما أفاء الله عليكم إلا من وجهه ( يعني لكم عليَّ أن لا آخذ من أموالكم شيئاً إلا ضمن الحق ) ولكم عليَّ إذا وقع في يدي أن لا يخرج مني إلا بحقه ( لا آخذ إلا حقّي ، وإذا أخذت حقي منكم لا أنفقه إلا في الحق ) ، ولكم عليّ أن أزيد عطاياكم ، وأرزاقكم إن شاء الله تعالى ، ولكم عليَّ أن أَسُدَّ ثغوركم (أي أحصِّن الحدود ، وأحمي البلاد من عدوان الأعداء ) ، ولكم عليَّ أن لا أُلقيكم في المهالك ( فالإنسان غالي ، والإنسان هو الأصل فإذا أُلقي في المهالك فقد خان الله ورسوله ) وإذا غِبتم في البعوث ( في الجهاد ) فأنا أبو العيال حتى ترجعوا ( أي أنا متكفِّلٌ بأهلكم وأولادكم ) فاتقوا الله وأعينوني على أنفسكم بكفِّها عني ، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنصيحة فيما ولاّني الله من أمركم ( النصيحة مطلوبة ) " .
لذلك سيدنا عمر بن عبد العزيز اختار رجل من كِبار العلماء ، واعتقد اسمه عمر بن مُزاحم، قال : " يا عمر كن معي دائماً وانظر فيما أحكم ، فإن رأيتني ظلمت ( أي غلطت ) فأمسكني من تلابيبي وهُزَّني هزاً شديداً وقل لي : اتق الله يا عمر فإنَّك ستموت " هذه وظيفتك .
حينما زار هذا الخليفة الشام جئ له بطعامٍ طيِّب .. معنى ذلك إن أهل الشام من قديم الزمان أكلهم طيِّب .. جئ له بطعامٍ طيِّب مختلفٍ ألوانه ، وبدلاً من أن يُقبل عليه ، وأن ينعُم بمذاقه رمقه بعينين باكيتين ، وقال : " كلُّ هذا لنا ، وقد مات إخواننا فقراء لم يشبعوا من خبز الشعير ؟! ( تذكَّر أصحابه الذي ماتوا في الغزوات ) أي أنه ما أراد أن يأكل طعاماً طيباً وإخوانه الذي سبقوه إلى الموت ما أكلوا هذا الطعام ، تألَّم .
مرةً قدم بعض تجَّار المدينة وخيَّموا عند مشارفها ، وقد أراد هذا الخليفة العظيم أن يقوم بجولةٍ تفتيشيةٍ في أطراف المدينة ، فاصطحب معه عبد الرحمن بن عوف ليتفقد أمر القافلة ، وكان الليل قد تصرّم ( أي مضى جزءٌ كبير منه ) ، واقترب الهزيع الأخير منه ، وعند القافلة النائمة اتخذ عمر وصاحبه مجلساً على مقرُبةٍ منها ، وقال عمر لعبد الرحمن : "فلنمض بقية الليل هنا نحرس ضيوفنا " ، سيدنا عمر الخليفة العظيم جلس ليحرس هذه القافلة ، ويحرس أموالها ، وإذ هما جالسان سمع صوت بكاء صبي ، فانتبه عمر ، وصمت ، وانتظر أن يكُفَّ الصبي عن بكائه ، ولكنه تمادى فيه ، فمضى يسرع صوبه ، وحينما اقترب منه سمع أمَّه تنهنهه ، قال لها : " اتق الله وأحسني إلى صبيِّك " أي أرضعيه ، ثم عاد إلى مكانه وبعد حينٍ عاود الصبيُّ البكاء ، فهرول نحوه عمر ، ونادى أمَّه : " قُلت لك اتق الله وأحسني إلى صبيِّك " وعاد إلى مجلسه ، بيد أنه لم يكد يستقرّ حتى زلزله مرةً أُخرى بكاء الصبي ، فذهب إلى أمه وقال لها : " ويحك إني لأراكِ أمَّ سوء ، ما لصبيِّك لا يقرُّ له قرار ؟!! " أي لما لا ترضعيه ؟ قالت وهي لا تعرفه : " يا عبد الله قد أضجرتني ، إني أحمله على الفِطام فيأبى " سألها عُمر : " ولما تحملينه على الفِطام ؟ " قالت : " لأن عمر لا يفرض العطاء إلا للفطيم " أي أن التعويض لا يعطيه إلا للفطيم . قال وأنفاسه تتواثب : " وكم له من العمر " قالت : " بضعة أشهر " قال : " ويحك لا تعجليه " يقول صاحبه عبد الرحمن بن عوف ، كأن سيدنا عمر صُعق، وأمسك رأسه بيديه وأغمض عينيه وقال: " ويحك يا ابن الخطاب كم قتلت من أطفال المسلمين " عدَّ نفسه قاتلاً لأنه أمر أن يُنفق التعويض على هذا الغُلام بعد الفطام ، إذاً أكثر الأمهات يحملن أطفالهن على الفِطام قبل الأوان من أجل أن تأخذ الأم تعويض غلامها .
ثم أمر منادياً نادى في المدينة : " لا تعجلوا على صبيانكم بالفطام ، فإنا نفرض من بيت المال لكلِّ مولودٍ يولد في الإسلام " من دون فطام ، وذهب ليصلي الفجر مع أصحابه ، فالناس ما استبانوا قراءته من شدته بكائه ، وكان يقول : " يا بؤساً لعمر كم قتل من أولاد المسلمين " وبعضهم يذكر أنه كان يقول : " ربي هل قبلت توبتي فأهنِّئ نفسي أم ردتها فأعزيها
مع حبي
هذا إدراك نادر أن هذا ابن أمير المؤمنين ، فلعلَّ الناس أعطوه فوق ما يستحق ، ولعلهم أكرموه ، فقال : بع هذه الإبل ، وخذ رأس مالك ، وردَّ الباقي لبيت مال المسلمين ، أرأيتم هذه النزاهة .
مرةً وصل إلى المدينة مالٌ كثير من أموال الأقاليم ، فتذهب إليه ابنته حفصة رضي الله عنها لتأخذ نصيبها ، وتقول له مداعبةً : " يا أمير المؤمنين حقٌّ أقاربك في هذا المال ، فقد أوصى الله بالأقربين " فيجيبها جاداً : " يا بُنيَّتي حقُّ أقربائي في مالي ، أما هذا فمال المسلمين ، قومي إلى بيتك ، أي اذهبي ، حق أقربائي في مالي ، أما هذا فمال المسلمين ، قومي إلى بيتك ، طبعاً مَن علَّمه ذلك ؟
إنّه النبي عليه الصلاة والسلام ، حينما قال لأحبِّ الناس إليه فاطمة البتول: " لا يا فاطمة إن في المسلمين من هم أحوج منك لهذا المال ، والله لا أؤثرك على فقراء المسلمين " .
مرةً أراد هذا الخليفة العظيم أن يسجِّل في ديوانٍ أسماءَ أصحابه حتى يعطيهم من فيء المسلمين بحسب أقدارهم ، وسبقهم في الإسلام ، والأسماء سُجِّلت ، بدأ عمر بن الخطاب ببني هاشم ، ثم بآل أبي بكر ، ثم بني عَدي آل عُمر ، فلما طالع أمير المؤمنين الكتاب ردَّه إليه وأمرهم أن يقدِّموا على آل عُمر كثيرين غيرهم اقترح أسماءهم ، وذكر أُسرهم وقال : " ضعوا عمر وقومه في هذا الموضع "
فقد رُتِّبت الأسماء ترتيباً بحسب السبق في الإسلام ، وبحسب قُرب الصحابي من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، هكذا أمر ، فجاءت القائمة كالآتي : بنو هاشم أهل بيت النبي ، آل أبي بكر ، آل عمر ، فنقل اسمه ، واسم أهله إلى مكانٍ بعيدٍ جداً ، فلما ذهبوا إليه أهله بني عدي راجين أن تظلَّ أسماؤهم في مقدمة الديوان كي ينالوا أنصباءَهم والمال الأوفر قالوا له : " ألسنا أهل أمير المؤمنين ؟"، نحن أهلك ، وأنت أمير المؤمنين ، فأجابهم عمر: " بخٍ بخٍ ، أردتم الأكل على ظهري ، وأن أهب حسناتي لكم ، لا والله لتأخُذُنَّ مكانكم ، ولو جئتم آخر الناس" ، لكم مكان لا يتقدَّم ، ولا يتأخَّر ، ولو كنتم أهلي وأقربائي .
وقال هذا الخليفة حينما اقترح عليه أحدهم أن يجعل ابنه في عمل، قال : " من استعمل رجلاً لمودّةٍ أو قرابةٍ لا يحمله على استعماله إلا ذلك فقد خان الله ورسوله والمؤمنين "، يعني على مستوى صف ، لو عيَّنت عرّيفًا على هؤلاء الطلاَّب يلوذ بك ، وفي الصف من هو أكفأ منه فقد خُنت الأمانة .
ألم يقل مرةً لأحد الولاة : " ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارقٍ أو ناهب ؟ " قال : " أقطع يده" قال : " إذاً فإن جاءني من رعيَّتك من هو جائعٌ أو عاطل فسأقطع يدك ، فإن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسُدَّ جوْعتهم ، ونستر عورتهم ، ونوفِّر لهم حرفتهم ، فإن وفينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خُلِقت لتعمل ، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فأشْغِلْها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية " .
مرةً قال له بعض أصحابه : " إن الناس هابوا شدتك " ، أي أنهم خائفون منك ، فقال هذا الخليفة : " بلغني أن الناس هابوا شدَّتي ، وخافوا غِلظتي ، وقالوا : قد كان عمر يشتدُّ ورسول الله بين أظهرنا ( أي كان يخفف من شدته ) ، ثم اشتدَّ علينا وأبو بكرٍ والينا دونه ، فكيف وقد صارت الأمور إليه ؟ " والله الآن أصبحت مشكلة .. كان يشتد والنبي الكريم يخفف ، وكان يشتد وسيدنا الصديق يخفف .. فقال : " ألا من قال هذا فقد صدق ، فإني كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم عونه وخادمه ، وكان عليه السلام من لا يبلغ أحدٌ صفته من اللين والرحمة ، وكان كما قال الله تعالى :بالمؤمنين رؤوف رحيم
فكنت بين يديه سيفاً مسلولاً حتى يُغمدني ..
ألم يقل لسيدنا الصديق : " أنت أفضل مني " فقال سيدنا الصديق لعمر : " أنت أقوى مني " فقال : " قوتي لك مع فضلك " ، فكان سيفاً مسلولاً بين يدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، فإما أن يدعه يمضي ، وإما أن يغمده والأمر راجعٌ للنبي اللهم صلي عليه ..
فلم أزل مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على ذلك حتى توفَّاه الله وهو عني راضي ، والحمد لله على ذلك كثيراً وأنا به أسعد " . كنت بيد رسول الله قوة إما أن يستخدمني وإما ألا يستخدمني ، كنت سيفاً إما أن يدعني أمضي ، وإما أن يغمدني ، هو كان رحيم ، وأنا شديد.
قال : " ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر ، فكان من لا تنكِرون دعته وكرمه ولينه ، فكنت خادمه وعونه ، أخْلِطُ شدتي بلينه فأكون سيفاً مسلولاً حتى يُغمدني ، أو يدعني فأمضي ، فلم أزل معه كذلك حتى قبضه الله عزَّ وجل ، وهو عني راضٍ ، والحمد لله على ذلك كثيراً ، وأنا به أسعد " ، كلام واضح جداً .
قال : " ثم إني ولّيت أموركم أيها الناس " الآن الأمر كله لي ، فقد كنت شديد وكان من يخفف من شدتي " فاعلموا أن تلك الشدَّة قد أُضعِفَت " كالأب تماماً إذا ماتت الأم يأخذ دور الأب والأم ، الشدة تضعُف ، فعند وجود الأم إذا اشتدَّ الأب فالأم تخفف من شدته ، أما إذا ماتت الأم إن هذه الشدة قد أُضعِفت .
فقال : " ثم إني قد ولّيت أموركم أيها الناس فاعلموا إن تلك الشدة قد أضعفت ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي ، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدعُ أحداً يظلم أحداً أو يعتدي عليه حتى أضع خدَّه على الأرض ، حتى يُذعن للحق ، وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف " .
أرأيتم أيها الإخوة ، هو للمؤمنين رؤوفٌ رحيم ، لينٌ مطواع ، يضع خده على الأرض ، أما أهل الظلم والتعدي فهو شديدٌ عليهم وهذه الشدة أشار القرآن إليها قال : ( ولاتأخذكم بهما رأفة في دين الله ) ( سورة النور آية 2 )
الرأفة في غير موضعها مؤذية جداً ، إنسان قتل يجب أن يُقتل ، لقوله تعالى :( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون )( سورة البقرة )
إنسان زنا يجب أن يُرجم إن كان محصناً ، أو أن يُجلد إن كان غير محصن :( ولاتأخذكم بهما رأفة في دين الله )
أما ولي الأمور إذا بلغه انتهاكٌ لحرمةٍ قال عليه الصلاة والسلام :" لا عفا الله عنه إن عفا ".
العفو عن إنسان مجرم معتدٍ مفسد في الأرض ، هذا العفو ليس خُلُقاً نبيلاً إنما هو ضعفٌ ، وإنما هو توسيعٌ للفساد بين الناس .
قال : " أيها الناس .. لكم عليَّ خصالٌ أذكرها لكم خُذوني بها ؛ لكم عليَّ أن لا أجتبي شيئاً من خراجكم ، وما أفاء الله عليكم إلا من وجهه ( يعني لكم عليَّ أن لا آخذ من أموالكم شيئاً إلا ضمن الحق ) ولكم عليَّ إذا وقع في يدي أن لا يخرج مني إلا بحقه ( لا آخذ إلا حقّي ، وإذا أخذت حقي منكم لا أنفقه إلا في الحق ) ، ولكم عليّ أن أزيد عطاياكم ، وأرزاقكم إن شاء الله تعالى ، ولكم عليَّ أن أَسُدَّ ثغوركم (أي أحصِّن الحدود ، وأحمي البلاد من عدوان الأعداء ) ، ولكم عليَّ أن لا أُلقيكم في المهالك ( فالإنسان غالي ، والإنسان هو الأصل فإذا أُلقي في المهالك فقد خان الله ورسوله ) وإذا غِبتم في البعوث ( في الجهاد ) فأنا أبو العيال حتى ترجعوا ( أي أنا متكفِّلٌ بأهلكم وأولادكم ) فاتقوا الله وأعينوني على أنفسكم بكفِّها عني ، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنصيحة فيما ولاّني الله من أمركم ( النصيحة مطلوبة ) " .
لذلك سيدنا عمر بن عبد العزيز اختار رجل من كِبار العلماء ، واعتقد اسمه عمر بن مُزاحم، قال : " يا عمر كن معي دائماً وانظر فيما أحكم ، فإن رأيتني ظلمت ( أي غلطت ) فأمسكني من تلابيبي وهُزَّني هزاً شديداً وقل لي : اتق الله يا عمر فإنَّك ستموت " هذه وظيفتك .
حينما زار هذا الخليفة الشام جئ له بطعامٍ طيِّب .. معنى ذلك إن أهل الشام من قديم الزمان أكلهم طيِّب .. جئ له بطعامٍ طيِّب مختلفٍ ألوانه ، وبدلاً من أن يُقبل عليه ، وأن ينعُم بمذاقه رمقه بعينين باكيتين ، وقال : " كلُّ هذا لنا ، وقد مات إخواننا فقراء لم يشبعوا من خبز الشعير ؟! ( تذكَّر أصحابه الذي ماتوا في الغزوات ) أي أنه ما أراد أن يأكل طعاماً طيباً وإخوانه الذي سبقوه إلى الموت ما أكلوا هذا الطعام ، تألَّم .
مرةً قدم بعض تجَّار المدينة وخيَّموا عند مشارفها ، وقد أراد هذا الخليفة العظيم أن يقوم بجولةٍ تفتيشيةٍ في أطراف المدينة ، فاصطحب معه عبد الرحمن بن عوف ليتفقد أمر القافلة ، وكان الليل قد تصرّم ( أي مضى جزءٌ كبير منه ) ، واقترب الهزيع الأخير منه ، وعند القافلة النائمة اتخذ عمر وصاحبه مجلساً على مقرُبةٍ منها ، وقال عمر لعبد الرحمن : "فلنمض بقية الليل هنا نحرس ضيوفنا " ، سيدنا عمر الخليفة العظيم جلس ليحرس هذه القافلة ، ويحرس أموالها ، وإذ هما جالسان سمع صوت بكاء صبي ، فانتبه عمر ، وصمت ، وانتظر أن يكُفَّ الصبي عن بكائه ، ولكنه تمادى فيه ، فمضى يسرع صوبه ، وحينما اقترب منه سمع أمَّه تنهنهه ، قال لها : " اتق الله وأحسني إلى صبيِّك " أي أرضعيه ، ثم عاد إلى مكانه وبعد حينٍ عاود الصبيُّ البكاء ، فهرول نحوه عمر ، ونادى أمَّه : " قُلت لك اتق الله وأحسني إلى صبيِّك " وعاد إلى مجلسه ، بيد أنه لم يكد يستقرّ حتى زلزله مرةً أُخرى بكاء الصبي ، فذهب إلى أمه وقال لها : " ويحك إني لأراكِ أمَّ سوء ، ما لصبيِّك لا يقرُّ له قرار ؟!! " أي لما لا ترضعيه ؟ قالت وهي لا تعرفه : " يا عبد الله قد أضجرتني ، إني أحمله على الفِطام فيأبى " سألها عُمر : " ولما تحملينه على الفِطام ؟ " قالت : " لأن عمر لا يفرض العطاء إلا للفطيم " أي أن التعويض لا يعطيه إلا للفطيم . قال وأنفاسه تتواثب : " وكم له من العمر " قالت : " بضعة أشهر " قال : " ويحك لا تعجليه " يقول صاحبه عبد الرحمن بن عوف ، كأن سيدنا عمر صُعق، وأمسك رأسه بيديه وأغمض عينيه وقال: " ويحك يا ابن الخطاب كم قتلت من أطفال المسلمين " عدَّ نفسه قاتلاً لأنه أمر أن يُنفق التعويض على هذا الغُلام بعد الفطام ، إذاً أكثر الأمهات يحملن أطفالهن على الفِطام قبل الأوان من أجل أن تأخذ الأم تعويض غلامها .
ثم أمر منادياً نادى في المدينة : " لا تعجلوا على صبيانكم بالفطام ، فإنا نفرض من بيت المال لكلِّ مولودٍ يولد في الإسلام " من دون فطام ، وذهب ليصلي الفجر مع أصحابه ، فالناس ما استبانوا قراءته من شدته بكائه ، وكان يقول : " يا بؤساً لعمر كم قتل من أولاد المسلمين " وبعضهم يذكر أنه كان يقول : " ربي هل قبلت توبتي فأهنِّئ نفسي أم ردتها فأعزيها
مع حبي
6/8/2023, 9:34 pm من طرف روان علي شريف
» أنا بهذه اللحظة
10/28/2021, 8:01 am من طرف جاك
» على الرصيف
6/13/2020, 5:40 pm من طرف روان علي شريف
» بوابة الجحيم
6/13/2020, 4:58 pm من طرف روان علي شريف
» الكاتب علي شريف روان في حوار لـ"الديوان"
6/28/2019, 5:05 pm من طرف روان علي شريف
» فردوس مليندا المفقود.
3/12/2019, 1:20 am من طرف روان علي شريف
» بدري فركوح
3/4/2019, 11:56 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» ليلى العفيفة
3/4/2019, 11:52 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» مجموعة مؤلفات محمد حسنين هيكل
1/27/2019, 3:42 pm من طرف نبيل اوزاعي
» ألفية العياط فى النحو
11/9/2018, 3:13 am من طرف محمود العياط
» ديوان إنشق القمر
8/14/2018, 2:05 am من طرف محمود العياط
» ديوان بومبا والاقزام
2/25/2018, 3:39 am من طرف محمود العياط
» بريد الموتى
1/23/2018, 2:35 am من طرف روان علي شريف
» ديوان دحش قرم ودانك
12/21/2017, 4:33 am من طرف محمود العياط
» ديوان حادى يابادى يا كرنب زبادى
10/14/2017, 6:21 am من طرف محمود العياط
» من عجائب الأرقام
5/24/2017, 9:36 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» ابن الرومي
5/24/2017, 9:20 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» قصيدة حبك وقلبى
8/13/2016, 11:05 pm من طرف محمود العياط
» الأعشى الأكبر
6/11/2016, 4:17 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» مساء الخير
5/2/2015, 8:40 am من طرف السراب
» مي زيادة
4/22/2015, 11:17 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» لبيد بن ربيعة
12/28/2014, 4:44 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» زهير بن أبي سلمى
12/20/2014, 4:32 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» جبران خليل جبران
12/5/2014, 2:16 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» إيايا أبو ماضي
11/5/2014, 2:09 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» حمل برنامح تعلم اللغة الانجليزيه على جهازك المحمول
9/11/2014, 10:04 pm من طرف poopy87
» أوبريت ملحمة تحتمس الرابع ولوحة الاحلام
7/28/2014, 9:41 am من طرف محمود العياط
» سيف الفراق
7/22/2014, 2:59 am من طرف محمود العياط
» ديوان اعشقك جدا
7/22/2014, 2:56 am من طرف محمود العياط
» ديوان الحديث مع النفس البشرية
7/22/2014, 2:54 am من طرف محمود العياط
» عمرو بن كلثوم
6/14/2014, 6:02 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» طرفة بن العبد
5/28/2014, 5:26 am من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» ديوان رصاصة فى قلب الجياد العجوزة
5/20/2014, 10:40 pm من طرف محمود العياط
» شهداء 6 أيار 1916
5/6/2014, 5:45 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» الياس قنصل
4/23/2014, 4:20 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» زكي قنصل
4/23/2014, 4:18 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» فضائية الجزيرة إحدى أسلحة قطر
4/3/2014, 6:05 pm من طرف طالب علي
» إضافة رائعة للفايرفوكس ( ميزة AutoPager ) تجعل كل المواضيع في صفحة واحدة
4/2/2014, 4:47 pm من طرف العـدوي
» محمود درويش مؤلفات ودواوين
3/20/2014, 9:56 pm من طرف wadfay
» حاتم الطائي
3/20/2014, 6:35 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» حكمة اليوم
3/2/2014, 6:03 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» امرؤ القيس
3/2/2014, 5:55 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» محتويات مكتبة الروايات
2/9/2014, 4:26 pm من طرف أريج الورد
» تقديم ديوان رصاصة فى قلب الجياد العجوزة محمود العياط
2/1/2014, 8:33 pm من طرف محمود العياط
» الحارث بن حلزة
1/21/2014, 7:36 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» مجموعة من الاغاني النادرة لكاظم الساهر تجدونها عند السراب فقط لا غير
1/19/2014, 10:02 am من طرف mas12ter
» رخصة زواج للمؤجل اداريا
1/8/2014, 9:17 am من طرف anas198510
» الف ليلة وليلة
1/8/2014, 2:01 am من طرف سعيد خليف
» عنترة العبسي
1/5/2014, 6:30 pm من طرف المهندس جورج فارس رباحية
» معجم المصطلحات النفسية انكليزي فرنسي عربي
11/24/2013, 1:33 pm من طرف محمد حمد