موعد في ليلة رأس السنة

مرّتْ سنوات طويلة لم ترَهُ فيها،... ربما تغيّرتْ ملامحه،... ربما صنعتْ منه الغربة رجلاً آخر، رجلاً يختلف عن ذلك الذي ودَّعتْه منذ سنين،... لكنها في كل الأحوال ستبقى تحبه، لأنه وبكل بساطة رجلَها الوحيد!...

جلستْ قرب المدفأة الجدارية على كرسيّها الخشبي العتيق، وبدأتِ الأفكارُ تتأرجح في مخيلتها، كما يؤرجح الكرسي جسمها المتعب،... تنهدتْ عميقاً ووضعتْ رسالته على صدرها، ثم أسندتْ رأسها على مسند الكرسي: "...أخيراً سيعود وسأراه ثانية،... لكنه على أية حال لن يكون أكثر اشتياقاً مني،... سيكون لا بدّ أكثر نحولاً، فهو لم يعتَدِ الأطباق الأوربية ولم يحبها،... ثم إن الدراسة وبعد ذلك العمل لا بدّ استنفذا معظم طاقاتِه، لكنه سيكون أكثر جديّةٍ وقوة بعد هذه الرحلة الشاقة،... وماذا أيضاً عن شخصيته؟... ماذا أخذ عن أهل الغربة؟... هل تغيرت أحلامُه وأفكاره فيرفض بيته الصغير المتواضع؟... أم سيرى فيه وطنه عندما كان صغيراً، ووطنه عندما أصبح كبيراً؟..."!.

رفعتْ رأسها ثانية،أصلحتْ نظارتها على أنفها ونظرت إلى الرسالة من جديد،... تابعتِ السطورَ بفرحٍ كبيرٍ وبانتباهٍ أكبر:

"أكتبُ لكِ آخرَ الكلام من أرض الغربة فلا تتغيري إلى أن أعودَ إليكِ وأرى ملامحي فيك،... سوف نقضي ليلة رأس السنة معاً ونُعيد الماضي من جديد..."، ثم تغير نبضُ الكلام: "أحتاج بعضَ المال ثمناً لتذكرة العودة... فهل أثقل عليكِ؟".

حوّلتْ عينيها إلى المدفأة الجدارية،... لقد باعت معظمَ أثاثِ البيت كي ترسل له بعض المال كلما طلب منها، ولم تُبقِ منه إلا الجزءَ القليل الذي لا غنى عنه،... وهاهي هذه المرة باعت آخرَ ما يمكن بيعُه... حطبَ المدفأة، وستكون المرةَ الأخيرة التي تبيع فيها أي شيء، لأنه سيعود وسيشتري لها كل ما تحتاجه ويعوضها عن كل ما فات!...

"سوف نقضي ليلة رأس السنة معاً ونعيد الماضي من جديد!..."، طالما قرأت هذه العبارة التي جعلتْ حلمَها الوحيد أن يطول عمرُها ساعاتٍ أخرى كي تراه وتقضي معه ليلة رأس السنة،... وابتدأت رحلةُ الانتظار،... كانت تتوقع عودته في كل لحظة،... كلما سمعتْ صوتَ عربةٍ في الخارج حسِبَتْها العربةَ التي ستزّف لها بشرى قدومِه، وكلما سمعتْ وقعَ أقدامٍ خلف الباب ازداد نبض السعادة في قلبها وهرعت إليه تفتحُه قبل أن يُقرع،... بل إن عينيها لم تغادرا النافذة فسيمرُّ الغائب حتماً من خلفها،... وصارتِ النافذةُ إطاراً للوحةٍ حفِظتْ كلَّ خطوطِها عن ظهر قلب،... ومع ذلك لم يأت!...

مرّتْ أيامٌ أبطأُ من ذوبان الثلج في أيام الصقيع، كان أملُها مثلَ نارِ الشمعة في هبوب الريح، يكاد ينطفئ،... إلا أنها كانت تحيطه بأحلامٍ حسبَتْها في بعض اللحظات حقيقة!...

وهاهو اليوم الأخير من السنة يترقّب قدومَه معها،... لم تبقَ سوى ساعاتٍ قليلة ويتحقق الحلم،... اقترب الليل، وتراقصتْ أشباحُ الأشياءِ التي تملأ الغرفة على جدرانها القديمة بتأثير الضوء المنبعث من نار المدفأة.

كعكةُ رأسِ السنة تبدو صغيرة جداً، لكنها استنفذتْ كلَّ ما بقي لديها من الدقيق، وهي مستقرةٌ الآن فوق طبقٍ من قشِّ مزيّن بأوراق ملونة تنتظر أن تُنار شمعتُها عندما يعود.

عصفور الساعة لم يخرج معلناً مرور الوقت منذ ساعات طويلة،... هكذا أحسّتْ وهكذا كانت ساعات الانتظار تمرّ... بطيئة... مترقبة... ساكنة!...

واعترض السكونَ فجأةً صوتُ عاصفةٍ ثلجية فملأَ المكان،... وبدأتْ طبقات الثلج ترتفع على عتبة النافذة فحجبتْ ما يدور في الخارج عن العيون المنتظرة خلف جدران الأمل،... كانت العاصفة تريد أن تقول "... يكفي هذا الانتظار ... إنه لن يعود !!!".

...لا يزال الكرسي يؤرجح جسمَها المتعب، ولا يزال لهيبُ نارِ المدفأة يُلهم قلبَها أملاً باللقاء، والتعبُ بدأ يهدهدها، حتى أغمضَتْ عينيها في إغفاءةٍ سعيدة...

...الانتظار مستمر،... اعتراض العاصفة الثلجية هدأ،... وخرج عصفورُ الساعة معلناً انتهاءَ عامٍ وابتداء عام جديد آخر،... وهاهي الآن تحلم أنها رأته وأطفأتْ نارَ شوقها بقبلةٍ على جبينه البارد.

ثم أيقظها مرغمةً صوتُ قرع قوي على ألواح الخشب التي كوّنتْ بطريقة ما بابَ كوخها العجوز،... هرعَتْ إليه وفتحته بسرعة، فظهر وجه جارتِها العزيزة أم منى خائفاً، إلا أنه أشرق بعد لحظات:

"هل أيقظتُكِ؟... آسفة... قرعتُ الباب بشدّة،... ظننتُ أن مكروهاً أصابك، فقد انتظرت طويلاً قبل أن تفتحي"‍...

لكن الجارة أم منى لم تتلقَ أكثرَ من نظرةٍ تائهةٍ أفْهَمَتْها كلَّ شيء،... ابتسمَتْ ابتسامة مفتعلة، وقدمتْ لجارتها طبقاً من الحلوى:

"كل عام وأنت بخير أم أحمد... ألم يأتِ أحمد بعد؟"‍...

تنبّهتْ أم أحمد للسؤال، وبدَتْ قسماتُها حائرةً،... فمنذ دقائق كانت معه تحتفل بليلة رأس السنة،... إلا أن المكان كان مختلفٌ تماماً عن هذا الذي يحيط بها،... بحثَتْ عيناها في أنحاء الغرفة كي تتأكد قبل أن تردّ فلم تجده:

-لا لم يأتِ بعد!!!.

-على كل حال لم تكن المرةَ الأولى التي يُخلِفُ بها وعدَه بالعودة،... فهوّني عليكِ!!!.

ابتسمَتْ أم أحمد، وكأنها خافت هذه الحقيقة، أو كأنها أرادتْ أن تُقنع جارتَها بكذبةِ أملٍ جديدة،... قالت:

"لقد كان صادقاً هذه المرة،... لكن يبدو أني فهمتُ قصده خطأ،... صحيح أنه قال سيقضي معي ليلة رأس السنة،... إلا أنه لم يذكر أي سنة تلك التي تحدث عنها‍‍!...".

ابتسمَتْ أم أحمد ثانيةً مقتنعةً بالكذبة التي اخترعتها،... إنها تحتاج فعلاً أن تصدق كذبةً كهذه كي تعيش حتى بداية العام القادم بأملٍ يُعينها على قسوة الوحدة وانتظار الأيام!...

ودّعتْ جارتَها بتفاؤل غريب، وعادت مع أملها الجديد إلى كرسيها الخشبي الذي طالما أحبّتْهُ وأحبّتْ معه مدفأتها، فهما يجعلانها تحلم بيوم اللقاء كما لم تحلم من قبل،... أصلحَتْ وضع نظارتها على أنفها،... تناولتْ سنارتَيّ صوفٍ من فوق كرسي قريب،... أحنتْ رأساً أتعَبَتْه قسوةُ الأحبة فاستحال سوادُ شعره إلى فضة،... وابتدأت تحيك حلماً جديداً ورداءً جديداً تبيعه كي تشتري حطباً للمدفأة وترسل لأحمد ثمنَ تذكرة العودة في المرة القادمة!...

امين
اختي سراب الفراق صعب
لانو انا عشت هالتجربة وانشالله
ماتمر على احد ايام الفراق الطريلة
وانتي بألف خير شكرا لمرورك