نور الدين عزيزة وبذور الثورة التونسية

نور الدين عزيزة وبذور الثورة التونسية

يقال ان على الشاعر الذي يكتب التاريخ ان يكون مستبصراً لواقع عصره ومدركاً لعمق معاناة الناس من حوله
وان يعكس رؤيته بين اسطره
وعليه ان يكون المتنبئ والقائد لفكرة تكون بذرة فيسقيها بكلماته حتى تثمر
ومن الشعراء الذين اثمرت كلماته الشاعر التونسي نور الدين عزيزة
استطاع هذا الشاعر ان يقرأ واقع الشعب التونسي قبل ان تظهر ملامحه
ويرسم صورة هذا الواقع بوضوح تام مبيناً الاسباب الاولى التي سوف توقظ الثورة في ضمير الشعب
وكيف تنتقل من مرحلة الدفاع عن الحقوق الاساسية لمرحلة استرداد السيادة من اللصوص
وطردهم من البلاد وصولاً لمرحلة قطف ثمار هذه الثورة دون ان ينسى الشاعر تكريم ابطال هذه الثورة قبل ان تبدأ ملامحها في التبلور
فتكلم عن ان الثورات تنبع في البداية من دفاع الانسان عن نفسه ووجوده ومن ثم عن افكاره وحقوقه
فهو يلخص القضية في البداية بكلمات صريحة تظهر في النص التالي

قَضِيَّـتي أَنْ تَسألوني مَنْ أَنا؟ أيْنَ أَعِيشُ؟

كَيف؟

قَضِيَّـتي غَيرُ القَضَايا

فِدَاءَ طِينَتِي أَمُوتُ، أَمُوتُ أَنا فِدَايَ.

وكأنه الشاعر يحكي في نصه هذا قصة البطل محمد البوعزيزي الذي ثار دفاعاً عن لقمة عيشه وعن كرامته التي اهدرت فقدم نفسه فداءً لها
ويعود الشاعر من رؤيته لمحمد بوعزيزي الى توضيح الخداع الذي تعرض له الشعب بخصوص اهم قضية له وهي الحرية
فيقول ان شعارات الحرية التي يرفعها اللصوص هي شعارات زائفة ومخادعة

نَقُومُ نَنَامُ عَلَيْهَا نَشْرَبُ فِيهَا نَتَبَاهى

نَلفُظُهَا نَكْتُبُهَا بِحُرُوفٍ كُوفِيّة

نَرْسُمُهَا بِمِيَاهٍ ذَهَبِيّة

نَنْحَتُهَا قَصَبًا مِنَ الحَلوَى وَنأكُلُها بِشَهِيّة

نَسْتَرِقُ الكَلاَمَ عَنْهَا وَسَمَاعِ الكَلاَمِ عَنْهَا

نَقْتَرِبُ اقْتِرَابًا مِنْها

وَقَدْ أَحَطْنَاهَا بِالزُّجَاجِ وَالوَرْد

فَإِذَا نَحْنُ قُلْنَا كُلَّ شَيْء

كَتَبْنَا كُلَّ شَيْء

نَحَتْنَا كُلَّ شَيْء.. إِلاَّ هِيَّ

الحُرِّية

الحُرِّية

خُرَافتُنا الجَمِيلَة

وَهَزِيمَتُنَا اليَوْميّة

وبعد ان تتضح الصورة للشعب بان القضية هي قضية الحقوق الاساسية للشعب وان الشعارات المرفوعة هي شعارات زائفة
يوجه الشاعر حديثه الى اللصوص والظلام يخبرهم بالحقيقة الاكثر سطوعاً وتكراراً في التاريخ

لَعلّكَ لَسْتَ تَجْهلُ مَـا نِهايَةُ كُـلِّ ظُـلمَهْ ؟

لَسَوفَ الحَقُّ يَثْـأَرُ سَوفَ لِلإِنْسَـانِ يَثْـأَرْ

فَـإِنَّ الشَّعْـبَ جَـبَّـارٌ وَإِنَّ اللهَ أَكـبَـرْ

وَإِنَّ لِكُـلِّ طَاغِيةٍ مـنَ التَّـاريـخِ يَومَهْ

وفي نص اخر يجهر الشاعر بتوجيه تحذير شديد اللهجة فيقول محذراً

حَذَارِ مِنْ جِيلِ الغُبَارْ

الجيلِ الذي رَضَعَ الخَرَابَ مع الضَّباب

وَالحِصَارَ معَ الدَّمَار

سَتُصدَم يا عالَمُ بِجِيلِ السُّمْ

الجيلِ الذي رَضَعَ الأَلَمْ

مَعَ الحَليب

عندَما لاَ سَاعاتٍ ولاَ شُهورَ ولاَ سَنَواتْ

سَتُصدَمُ يا عالَمُ بالإِنْسَانِ القَادِمْ

الإِنسَانِ اللَّيلِ البَرْقِ الهَادِمْ

يُطَالِبُ بالحَياةْ

نعم فالانسان التونسي حينما اعلن ثورته كان يطالب بحقه في الحياة الكريمة وهذه نقطة اخرى تسجل للشاعر في رحلة استشراقه للثورة


يتابع شاعرنا المضي قدماً في رسم التنبؤات بالثورة القادمة
فيقول

وَقَدْ يَهُبُّ النَّاسُ مِنَ النَّوْم

قَدْ يَغْمُرُونَ الشَّوارِع

قَدْ يُصْبِحُونَ في رَحابَةِ صَدْرِ نَهْرٍ

أوْ بَحْر

قَدْ يُصْبِحُونَ في سَماحَةِ البِنَاءِ المَرْصُوص

قَدْ يَتَصَدَّى لَهُم ُالفَرَاعِنَةُ اللُّصُوص

وقَدْ يَهْرَبُ اللُّصُوص

وهذه ايضاُ نقطة اخرى ثبت فيها ان الشاعر كان يقرً الواقع قراءة صحيحة فهو يعرف تماما ان اللصوص لا قدرة لديهم للمقاومة والبقاء ومواجهة الحق

وبعد ان يهرب اللصوص من البلاد يتغزل شاعرنا هنا بالثورة وثمارها قائلاً

تُفيقِينَ مِنْ بعدِ نَوم

يا قَمْحَةً وتَنْبُتينَ

تَخضَوْضَرينَ

تُعانِقينَ الزَّمانَ والفَضاءَ

تستَوينَ استِواءَ

تتَكامَلينَ تَكامُلَ النَّبضَاتِ في صَدري وتَخْرُجينَ ماءً وَهَواء وَدِماءً.

وهنا ايضاً ينبئنا الشاعر الى ان ثمار الثورة التونسية لابد ان تكون نسائم حب وحرية
الضَّوْءُ غاضِبٌ في صَمْت

هارِبٌ مِنَ المَوتْ

والرِّيحُ في كَنَفِ السِّريّة

تَتَحَوَّلُ زَوَابِعَ

تُزْهِرُ أَغْصَانُهَا نَسائِمَ حُبٍّ وَحُرِّية

وفي النهاية لا ينسى الشاعر ان يوجه التحية الى ابطال الثورة القادمة من قبل قدومها

أَيُّهَا النَّائِمُونَ بَيْنَ الطُّبُولِ
هَلْ إِلى الصَّحْوِ عِنْدَكمْ مِنْ سَبِيلِ!
هَلْ سَأَلْتُمْ مَا نَحْنُ لَوْلاَ رِجَالٌ
أَشْرَقُوا مِنْ ظَلامِنَا كَالنُّصُولِ؟
نَفَذُوا فِي الحَدِيدِ دُونَ حَدِيدٍ
وَرَمُوا الرُّعْبَ فِي فُؤَادِ الغُولِ
كَسَرُوا نَخْوَةَ الأَعَادِيَ حَتَّى
فَقَدُوا الوَجْهَ مِثْلَ أَيِّ رَذِيلِ
كَسَرُوهَا فَلاَ أَمَانَ مِنَ اليَوْمِ
لِشَيْطَانِ البَغْيِ وَالتَّنْكِيلِ
يَا زُهُورَ المَوْتِ الجَمِيلِ سَلاَماتٌ
فَفِيكُمْ كُلُّ العَزَاءِ الجَمِيلِ

من خلال هذه النصوص المقتطفة من بعض قصائد الشاعر والتي قيلت جميعها قبل سنين من اندلاع الثورة في تونس
نلاحظ ان الشاعر كان يتمتع برؤية واضحة وكأنه كان يرى الثورة في هذا الوقت ويصفها بكلامه ولكن قبل سنين من وقوعها